الكافي

 الليلةَ البارحةَ كنتُ أجولُ في حديقة غناء مترامية الأطراف كثيرة المسالك والشُّعب.. اسمها الكافية في النحو لطيب الذكر وخالده.. الإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب -رحمه الله- رحمةً واسعةً..

خشيتُ على نفسي من التِّيه فتوقفتُ..!

ذلكم أن الإمام ابن الحاجب ناصر بن عصفور -رحمه الله- في قاعدته الشهيرة في تعليل الأسماء.. و ذكر مبررات لنصرته و ضرب أمثلة و شواهد على ذلك.. قال –رحمه الله-:

إذا كان اشتقاق الاسم من الصفة[وليس بلازمٍ أن يكون الاسم مشتقاً من الصفة.. بل هو توقيفي] فكيف ينتفي التعليل؟

والذي نعرفه أن مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة بينهما اتفاق على أن الأسماء لا تُعلّل.. سواء أكانت الأسماء جامدة أم مشتقة..!

إنما ابن الحاجب -رحمه الله- قال: إذا كان الاستفراغُ يسمى كَوْعٌ وثَعٌّ، والظهور بمعنى الإبانة، فإنما سمّي الثعبان ثعباناً لأنه ثَعَّ فأبان سُمَّه..! والسلحفاة نوع من الزواحف تنسلُّ فتتلحّف بالأعشاب فسُمّيت سلحفاة..!، 

وعجيب أمر ابن الحاجب -رحمه الله-.. وأعجب منه تخريجاته البعيدة.. يقول ابن وكيع -رحمه الله-: عجبنا لأمر ابن الحاجب وقوة عارضته وسرعة بديهته فاتفقتُ ورفقةً لي على اختبار الرجل فتذاكرنا قول الشاعر:

أبا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا حَنانَيْكَ بَعْضَ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

فَعُولَنْ فَعُولَنْ فاعِلاَتٍ مَفاعِلَنْ فَعُولَنْ فَعُولَنْ فاعَلَنْ فِعْـــلاَتِنْ

وقطّعناه عروضاً حتى استوتْ عندنا مَفَاعِلَنْ (قِبَعْضَنَا) وذهبنا إليه وهو في رحبة المسجد، وقلنا له:

يا أبا عمرو ما (لِقِبَعضُ) في قول الشاعر: فاستَبْقِبَعْضَنَا؟

فأجاب: القِبعضُ هو: القُطن..! قال الشاعر يصف سنام ناقته: كأنّ سنامَها حُشِيَ القِبعضَا…!!

قال: فانصرفنا منه في حيرة من أمره، ولقينا سعيد بن مسعدة فروينا له القصة، فقال: إن كان ما قال صحيحاً فهو عجيب.. وإن كان مصنوعاً فهو أعجب..!

هذا هو جمال الدين ابن الحاجب معلَّل الأسماء، وأهل الكوفة والبصرة يقولون إن الأسماء لا تُعلَّل..؟!

قلتُ لكِ: عجيب أمر هذا الرجل..! 

العاملان في التنازع عنده على ضربين.. فهما مختلفان أو متفقان ليس إلاّ.. بينما البصريون يقولون: إذا تنازع العاملان في الفاعلية والمفعولية فإننا نُعمل الثاني مع تجويزنا لإعمال الأول.. أما الكوفيون فانهم يُعمِلون الأول مع تجويز الثاني..!، وابن الحاجب يقول: وكلاهما -الكوفة والبصرة- خلاف الأصل! ولا تجيء هذه العلة (الإعمال) في غير العطف نحو: جاءني لأكرمَه زيدٌ..!.

بالطبع ردّ عليه أهل الكوفة.. وردّ عليه أهل البصرة وسفّهوا رأيَه..!، وقالوا: من عَلَّل الأسماء لا يعجزه تعليل القاعدة..!.

لا أودّ الاستمرار في متاهات ابن الحاجب خشية أن أضيعَ، فرحمه الله رحمةً واسعةً.

1978م