الكذِب

خصلة ذميمة ومرضٌ اجتماعي، قديم قِدم الإنسان.. بل وُلد معه، وإن كان تقسيم علماء التربية للكذب لا يقوم على أسسٍ ثابتة إذ إنهم لا يدعمون نظريتهم بأدلةٍ قاطعةٍ، وعندي أن الكذب نوع واحد لا أنواع كما يزعمون، حيث قالوا: بالكذب الأبيض والكذب الأسود، ثم إن الذي تَطرأ عليه الألوان إنما هي الأشياء الحسية لا المعنوية، والكذب شيء معنويّ وإن كان يُصاغ في قوالب حسية مغلّفة بالأقاويلِ تسمعُ بالأذن.

هناكَ نوع من الكذب البريء نسمعُه من الطفلِ خوف العقاب، هناكَ نوع من الكذبِ أوجبه شيخ الإسلام ابن تيمية، كأن يَسْأَلَ عمرو عن مكان زيد يريد قتله وأنت تعلمُ مكانه.. هنا يجب عليكَ الكذب كي لا توقع بأَنْفُسٍ في التهلكة، وهناك نوع من الكذب الذي لا يحاسب عليه مرتكبُه وهو ما يأتي في قوالب تحتمل عدة معانٍ وربما معنيين فقط، وهو ما يسمى بالتورية لدى علماء البلاغة..! [لعدم معرفة القصد..].

وهناك نوع من الكذب المقبول، والذي يصاغُ في قوالب المبالغة ويجري في نحو المجاز كالشعرِ مثلاً، ولذا قيلَ: أعذبُ الشعرِ أَكْذَبُه .. خُذ مثلاً:

ولوْ أنّ بَرْغُوثاً على ظَهرِ قَـمْلةٍ يَكرُّ عــلى صَفَّيْ تميمٍ لَـوَلَّتِ

وقالَ لَهَا القَمَرُ المُنيرِ أَلاَ فَاسْفِرِي فَإِنَّكِ مِثْلي في الجَمالِ وفي السَعْدِ؟

وهناك نوع من الكذب المباحِ، وهو كذب الزوج على زوجه..ولستُ أرى إباحتَه بقدر ما أرى فيه لؤماً من رجلٍ يتعاملَ مع شريكة حياته بالكذب والخداع، وهناك قول لا ينطبق عليه الصدق أو الكذب كالإنشاء.

ونوع آخر من الكذب وهو ما يتمثل في الأفعال وإبرازها في قوالب الحقيقة، وهذا النوع لا رأي لي فيه، كما يفعله الممثلون خاصة، الذين يؤدّون الأدوار التاريخية من إسلامية وعربية صرفة.. فنجد الدِّبل والخنفة والسلاسل وأحياناً الساعات وغيرها من الأصباغ. 

والطامّة الكبرى، الكذب الفاحِش، الكذب الذي لا يُطلبُ عليه دليلاً حسياً لاستحالته، لكن واقِعُ الحال تدلّ على الكذب كما يدلّ على الصدق..!

قد يلجأ المرء للكذب للتخلّص من المآزق والمواقف الحرجة..!

وأفظعُ الكذب وأقذره الكذب على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة رضي الله عنهم، وعلى التاريخ، وهو ما نفعله في متاحفنا.. وما يفعله المؤرخون زُلْفى أو خوفاً..!..

الصدقُ منجاة .. فما أجملَ الصدق، لكنما الدبلوماسية تقول: اكْذبْ واكْذبْ واكْذبْ، فلا بدّ أن تجد من يَصدِّقُك..؟!

ولستُ أدري لِمَ يلجأ المرء للكذب..؟ لستُ أدري لِمَ يستغفلُ الناسُ بعضُهم بعضاً في القولِ والمعاملة..؟ 

يظنّ البعض أن السامع إنما هو مخلوق بلا فكرٍ ولا عقل فيروح به ويغدو برواياتٍ وأقاصيصَ لا واقع لها ولا مبرر لسَرْدها، وليتهم يوفّرون على أنفسهم العناء، ليتهم يعلمون أن الصبر ينقذ وأن الشجاعة يحتاج لها المرء مضطراً كي يثبت رجولته. 

الذي يكذبُ عليَّ يستغْفلُنى، والذي يكذب علىَّ يستبلهني ويضحكُ في عقلي، وهنا أشعر أنه يُهِينُني ولابد من رد الاعتبار، ولابدّ من إثبات الكرامة.

رجلٌ تعرفتُ عليه مذ وطِأتْ قدماي أرضه، وقد أضطر له أحياناً في قضاء حاجة، لكنه -وسامحه الله- كلَّ يومٍ يأتيني برواية مغايرة للرواية التي سبق وأنه أَسْمعَنيها، وما أكثر روايات صاحبي..!!

بالأمسِ قال لي إنه وفي منامه رأى الخَضِر عليه السلام يستحمُّ في النهر..؟!! وأنه أخذ ملابسه وكانت تفوح طيباً رأى أثَره في يديه بعد أن استيقظ من نومه صباحاً الساعة السابعة، ما صلّى الفجرَ ورأى في منامه نبيّاً..!
وقبلاً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه قال له إن لم تَحُجَّ في الدنيا فستحجّ في الآخرة، ومع الملائكة، وبعد أنه تُرفَعَ الكعبةُ..؟!

وأنه قبلاً رأى أباه الذي مات عنه –وعمرُه أربعة أشهر- وأنه وصفه لأمه فصدّقتْ رؤياه..

قلت له: رؤيتك للخضِر قبل أنه تدخل البار أم بعد خروجك منه؟ 

فأجاب أن روحه الطيبة هي التي رأتْ الخضِر، صاحبي يشبه إلى حد كبير أَحِبَّتنا في مِصرَ، وسامح الله الأحبة في مصر..! فأغلبهم يرى النبيَّ في منامه، أذكر أن مِصرياً حدّثني –وفي مِصرَ- أن أخاه الجندي، وهو يحارب الصهاينة في سَيْناءَ، أحسَّ بيدٍ خَضْرَاءَ تمسحُ رأسَه..! فعرف أنه مَلَكٌ بجانبه يحارب الأعداء.

وطيارٌ كُلّف بمهمةٍ داخل سَيناء، لكن وهو يهمّ بإلقاء أطنان القنابل، شاهد طائراتٍ ثمانٍ تجانب طائرتَه -أيضاً خضراء اللون-! وبدون هويه تُلقي بأطنان القنابل عِوضاً عنه فعاد بحمولته، ولما أخبر القيادة أكّدوا له أنهم لم يبعثوا بطائراتٍ قطّ معه.. بل هو الوحيد.. فعرفَ وعرفوا أنها طائرات من السماء..![حلو!]..

مرةً أخرى، سامح الله الأحبة في مصر، وسامح صاحبي، وقد أشرتُ إليه! بالاِقتصادِ في الأحلام.

كابل.. أفغانستان…

1978م