الفقه الإسلامي والتقنيات الحديثة

الفقه الإسلامي والتقنيات الحديثة

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: 

لقد كان لتجدد الحوادث الاجتماعية المتمخضة عن التطورات العلمية و(التكنولوجية)، تأثير عظيم في كثير من المسائل الفقهية، مما يستوجب النظر فيها، والاجتهاد في حلها من جديد، وفق التقنيات والتطورات العلمية المعاصرة في شتى المجالات.

وليس من الحق أو العدل -في نظري- إعادة دراسة المسائل الفقهية الاجتهادية القديمة بمعزلٍ عن الواقع المعاصر؛ ذلك أن التقنيات الحديثة قد أثرت تأثيراً بالغاً في الكثير من المسائل الفقهية التي درسها واجتهد فيها الفقهاء السابقون - رحمهم الله - وهذا مما يدعو طلاب العلم إلى بذل الجهد في استخراج الحلول المعاصرة لبعض المسائل الخلافية المشكلة، أو التي كانت حلولها وقتية ومناسبة للأزمنة الماضية.

إذ مع تقدم الزمن وظهور التقنيات الحديثة والمخترعات العصرية الجديدة تبينت حلول أخرى مناسبة لكثير من المسائل الفقهية الخلافية ومتوافقة مع معطيات العصر، فكان لابد من إعادة دراسة بعض تلك المسائل مرةً أخرى. 

ثم إن تغير الأحكام - بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال - ليس تغيراً في أحكام الشريعة ونصوصها، إنما هو رجوع العوائد إلى مستندها الشرعي، كما يشير إلى ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- بقوله: (إِنَّ اخْتِلَافَ الْأَحْكَاَمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ اَلْعَوَائِدِ، لَيْسَ فِيْ الْحَقِيْقَةِ بِاِخْتِلَافٍ فِي أَصْلِ اَلْخِطَابِ؛ لِأْنَّ اَلشَّرْعَ مَوُضُوُعٌ عَلَى أَنَّهُ دَائِمٌ أَبَدِيٌ، لَوْ فُرِضَ بَقَاءُ اَلدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَاَلْتّكْلِيفُ كَذَلِكْ، لَمْ يُحْتَجْ فِيْ اَلشَّرْعِ إِلَى مَزِيْدٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الاِختِلَافِ: أَنَّ اَلْعَوَائِدَ إِذَا اخْتَلَفَتْ رَجَعَتْ كُلُّ عَادَةٍ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيْ يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهَا).

وليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان والمكان والعرف والعادة، فالأحكام نوعان كما يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: (نَوْعٌ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ عَلَيهَا، لَا بِحَسَبِ الأَزْمِنَةِ وَلَا الأَمْكِنَةِ ولَا اجْتِهَادِ الأَئِمَّةِ، كَوُجُوْبِ الوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمِ المُحَرَّمَاتِ وَالحُدُودِ المُقَدَّرَةِ بِالشَّرْعِ عَلَى الجَرَائِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيِرٌ، وَلَا اجْتِهَادٌ يُخَالِفُ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ المَصْلَحَةِ لَهُ زَمَانَاً وَمَكَانَاً وَحَالَاً، كَمَقَادِيرِ التَّعْزِيرَاتِ وأَجْنَاسِهَا وَصِفَاتِهَا؛ فِإِنَّ الشَّارِعَ يُنَوِّعُ فِيهَا بِحَسَبِ المَصْلَحَةِ).

ثم إن تغير الأحكام لم يكن مقصوراً على تغير الأزمان واختلاف العصور فقط، وإنما قد يكون ناشئاً عن حدوث طفرات (تكنولوجية) وتنظيمية وتقنية، اقتضتها أساليب الحياة في عصرنا الحاضر.

فحدوث هذه (التكنولوجيا) المبهرة في جميع المجالات يقتضي - ولا شك - أن تتغير بعض الأحكام الاجتهادية؛ لتتفق مع متطلبات العصر، وتساير مصالح الناس؛ وذلك أن المتغير من الأحكام هو الذي نشأ عن اجتهاد، ولم يقع فيه إجماع، فهو معترك العقول، ومحل الخلاف الذي يقبل التغيير، ويتبع الأحوال المتجددة. 

وهذا الأمر طبعي في الحكم الاجتهادي الذي به تتسع الشريعة على المسلمين، بشرط أن لا تصادم نصاً، أو إجماعاً.

ثم إن تبدل الفتوى لا يعني تغير القديم، وطرح تراث الآباء والأجداد من الفقهاء -رحمهم الله- وإحلال غيره من المستجدات محله.

ولا يعني التطور والتجديد ومسايرة العصر - أيضاً - تحكيم الهوى والشهوة؛ لكنه يعني العودة إلى أصول الشريعة، وقواعدها الثابتة التي ترمي إلى إحقاق الحق، وإرساء العدل والإنصاف في كل الأزمنة والأمكنة والأحوال والعصور.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.