اتخذ مكانه بين حشد من المدعوين في حفل جامعة الرياض!
لم أصدق أول الأمر أنه ذلكم الشخصية الفذّة التي أعرفها تمام المعرفة، إلا أنني أَعرْتُ النظر ثانيةً وثالثةً حتى تحقق لي أنه هو!! فعادتْ بي الذاكرة إلى ما قبل عامين مضياً وحينما كنتُ أعمل مع صاحبنا هذا، بلى وتحت إمْرته!
تذكرت ذلكم الحوار القصير واللطيف في نفس الوقت الذي دار بيني وبينه حينما زرته ذات ضحى في مكتبه لأجدّد ولاء الطاعة، و لأُثبت له أنني من خيرة موظفيه.
كان صاحبنا يجلس خلف مكتبه الأنيق وعلى كرسيه الدوّار، تواضع الرجل وأعارني التفاتة حرك معها شفتيه كإيجابٍ بردّ السلام، و من ثم أشار إليّ بالجلوس، ولاذ بالصمت العميق، الصمت الذي أعهده منه!
وكَمْ كنتُ سعيداً حينما أدركت أن سكوت الرجل منجاة له.
لم يكن في مكتبه سواي و سواه، صَوَّبَ إليّ نظرة أعقبها هزةَ رأسٍ خفيفةٍ، ومن ثم سألني -لا فُضَّ فُوه- سألني وليته لم يسأل! قال حماه الله من العين: -وهنا يأتي الحوار الذي كشف لي شخصية صاحبي-!!
ما هي الدروس التي تُدَرِّسُها في المعهد؟
أجبت قائلاً: مادة البلاغة.
فهزّ رأسه هزةً خفيفةً أيضاً، وأردف يقول: يعني قواعد ..!
قلت: لا يا سيدي! مادة البلاغة لا علاقة لها بالقواعد.
قال: أعرف ذلك جيداً وأفهمه.. إنما البلاغة أدب..؟!!
قلت: يا سيدي البلاغة درس مستقل بحدّ ذاته لا علاقة له بأي مادة أخرى، إنما البلاغة أرشدك الله وظيفتها معرفة وجوه الجمال في اللفظ العربي، ثم أردفتُ قائلاً: والبلاغةُ يا سيدي تنقسم إلى ثلاثة علوم:
بيانٌ ومعانٍ وبديعٌ... وهنا أدركت حراجة الموقف..! موقفي أنا؛ إذ لا زلتُ حديثَ عهدٍ بالفصل والطلبة، فهل أكون أستاذاً لشيخ المشايخ؟. ولكن الله سلم؛ إذ دخل الخادم الوديع وأسرَّ في أذن الشيخ كلمات كان جواب الشيخ عليها هزةَ رأس، و إصلاحَ غترة ومشلح، وانتصاباً على الكرسي من جديد.
وما هي إلا ثوانٍ حتى دخل المكتب رُتَلٌ من البؤساء من أمثالي والذين لم يُكتَبْ لهم أن يكتشفوا الجوانب المجهولة في شخصية صاحبي هذا.
وهنا نَهَضْتُ نهضةً مستأذناً في الانصراف، وخرجت مطأطئَ الرأس مترحماً على شاعر الرصافة (معروف الرصافي) حيث يقول:
مَعَاهِدُ ضَلَّ عنها سابِقُ عِزِّها فَهَلْ هُوَ مِنْ بَعْدِ الضَّلالَةِ مُهْتَدِي؟
اللهم لا شماتة، وفي الحفل الجامعي ينتصب صاحبي بجانب رجال المعرفة ولكأنما هو واحد منهم، يرمق آلة التصوير بعين ملؤها الكِبْرُ والإعجاب.. وليت القوم المحتفلون يعرفون عن صاحبي ما أعرفه لما تردّدوا كثيراً في سحب بطاقة الدعوة وإعطائها لمن يعرف قدر نفسه، لا لمن زاده الله بسطةً في الجسم لا في العلم، وللهِ دُرِّ القائل: (أنا لا أخشى على العلم من العلماء… إنما أخشى على العلم ممن يدعيه) أ-هـ.
الرياض 13/10/1392هـ.