الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فهذه رسالة من الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- إلى الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- بعد توليه الحكم في الرياض، مذكرا له ما كان عليه أسلافه من آل سعود رحمهم الله، واصفاً له حال الدعوة وأهلها في الدرعية، جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالف أمرك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، اللهم هذا الجهد وعليك التكلان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً.
من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب، عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن الإمام فيصل بن تركي، ألزمه الله كلمة التقوى، ووفقه للقيام بما هو أقوم وأقوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.وبعد:
موجب الخط أبين لك ما أنت خابر، من أمر دعوة الإسلام، التي منَّ الله بها في آخر هذا الزمان، بموجب النصيحة للإمام، المشوبة بالمحبة والشفقة والخوف، وكنت - والله يعلم صدقي بما قلته أني - أحبك، وأقدمك في المحبة على من مضى، من حمولتك وحمولتي.
واليوم الذي أجتمع بك فيه عندي يوم سرور، ولا عندي لك مكافاة إلا بالدعاء والنصح باطنا، وأكثر من يجتمع بالإمام ما يجي أمر النصيحة له على بال، وبعضهم ما يحسن النصيحة، ولا يعرف وجهها، وبعضهم غرضه دنياه، وهمته موقوفة عليها، وقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية : 1-3]. ولا يسلم من الخسران إلا أهل العلم ومعرفته، وقبول الحق ومحبته والانقياد في طاعته، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر على ذلك، ومن نقص في ذلك ناله من الخسارة بحسب ذلك.
ولا يخفاك أن الله من عليكم بدين الإسلام في آخر هذا الزمان، برجل واحد خالف فيه الأدنى والأقصى، والقريب والبعيد، لأنه قام في حال غربته، لما اشتدت غربة الإسلام في جميع الأماكن، والناس كلهم إلا من شاء الله، لا يعرفون معنى لا إله إلا الله.
واشتد نكير الناس عليه، العامة والمطاوعة، وحذروا الملوك منه، وشنعوا عليه في التوحيد الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وخلق الجن والإنس له، وصار أقرب قريب له: ابن معمر أمير بلاده، لما عرف عداوة الناس له، أرخص له عن البلد.
وصار رحمة ونعمة عظيمة لكم يا حمولة، وتلقاها جدك رحمه الله وأهلك وخواص; وأعانهم الله على عداوة أهل الأرض في هذا الدين، ولا عندهم أموال يبذلونها، لكن بذلوا نحورهم وأنفسهم، وأرخصوها لله في طلب رضاه، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
ولا مقصدهم إلا أن الناس يتركونهم يوحدون الله، ولا يعارضونهم عند التوحيد، ولا حصل من الشيوخ بنجد وأتباعهم، وضدهم في غاية القوة، وهم في غاية الضعف والقلة.
فأيدهم الله بدينه، وكل عدو يقصدهم يكسره الله، وما زالوا كذلك حتى ملكهم الله جزيرة العرب بهذا الدين، وهم في تلك السنين معافيهم الله في أبدانهم، حتى إن الأمراض العامة لا تعرف فيهم.
ولهم سيرة، أذكرها لك من غير مجازفة دائما في كل وقت، يبعثون الدعاة إلى الله، إلى كل بلدة، يجددون لهم دينهم، ويسألونهم عن ثلاثة الأصول، والقواعد، وغير ذلك من كتب الأصول.
ثم قال -رحمه الله-: وأما حالهم في بلدهم الدرعية، فبنوا مجمعاً - حول مسجد البجيري - محله معروف إلى اليوم، يسع له قدر مائتي رجل، وجعلوا فيه رفا للنساء، فإذا صلوا الصبح أقبلوا لهذا المجمع، وفيه "معاميل" وقهوة وما نابها، مقيوم به من بيت المال.
تارة يجلس فيه حسين بن الشيخ، وتارة عبد الله، وتارة علي، ويقرؤون في نسخ التوحيد، فإذ فرغ هذا الدرس، راحوا هم وغيرهم، وجلسوا عند بيت الشيخ، حتى يجيء عمك وجدك، وسعود وعياله، وآل عبد الله، ويدخلون عند الشيخ رحمهم الله. فإذا تقهووا، وذكر عمك، رحمه الله للشيخ ما عنده من خبر، أو أمر يحتاج له الشيخ ذكره له، وأخذ ما عنده من رأي ومن علم، وأرخصوا للجماعة، وقرأ ثلاثة:
عبد العزيز بن الشيخ يقرأ في تفسير ابن كثير، وعلي وعبد الله يقرآن في البخاري، وكل من عنده دراية وفهم، إذا فاضوا في الباطن صاروا حلقا، يتذاكرون درس الشيخ -رحمه الله-.
والأجنبي الذي يبغي يركب لديرته، يصغي للمذاكرة، عارف أن أهل ديرته يسألون: إيش درس الشيخ فيه؟
ونحن يا حمولة، لنا مجلس بين العشاءين في الباطن، يجتمعون فيه أهل البلاد، ونسأل اثنين، والذي ما يعرف دينه يضرب، فأول يجلس فيه حسين، ثم علي بن الشيخ، وجلست فيه مدة نحو سنتين أو ثلاث على هذا الترتيب، ثم حمد بن حسين، هذا بعض ما حضرناه من سيرتهم.
فلما توفى الله عمك، حصل غفلة عن هذا الترتيب، لما فتح الله الدنيا، وكثرها على الناس، ووقع الإعراض عن كثير مما ذكرنا، لا كله، بل باق له بقايا، وحدث ما حدث من البلاوي بالعدو، وذا شيء أنت خابره، ورد الله لكم الكرة، أنت ووالدك رحمه الله، وعادت البلوى الأولى، وعافاك الله منها ومكنك غاية التمكين، وتسببت في حفظ أموال الناس، ورفع أيدي البوادي، وهذا عمل صالح، ومن الواجبات.
ثم قال -رحمه الله-: جدد هذا الدين الذي اخلولق، لما أقدرك الله على ذلك، والتمس من أهل الخير عددا يدعون إلى هذا الدين، ويذكرونه الناس، ويعلمونه الجاهل والغافل; وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، وأنت سالم والسلام.
فرحم الله الجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورحم الله الأموات من ذريته، ووفق الأحياء للعمل الصالح والدعوة إلى الخير، فكن يا رعاك الله على نهجهم تسير ومن مشكاتهم تستنير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،
الدرر السنية، (النصائح) (14/84)