الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد كثر الحديث والكتابات عن إحياء الآثار والعناية بها في هذه الأيام مما يلفت النظر، ولا سيما في هذه الأيام التي تمر الأمة فيها بأزمة عظيمة من تسلُّط الكفار على الإسلام والمسلمين ومحاولتهم إطفاء نور الله الذي بعث به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كما هو ديدنهم منذ بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتد تطاولهم على الإسلام ورسوله في هذا الوقت حتى دنَّسوا المصحف الشريف، وصوّروا الرسول صلى الله عليه وسلم بصور ورسومات مشوهة للصدّ عن سبيل الله، وقاموا في وجه الدعوة إلى الإسلام. ومع هذا كان فريق من كتّابنا وصحفيينا مشغولاً بالبحث عما يسمونه بالآثار وإحيائها، ويريدون بالآثار ما يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه جلسوا فيه أو سكنوا فيه أو وقعت فيه أحداث تاريخية من البقاع والدور والغيران مما لم يهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة من بعدهم؛ لأنه لا جدوى فيه من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى قد يجرّ إلى الغلو والتبرُّك بتلك الآثار والاستغاثة ودعاء مَن نسبت إليه مما هو حقيقة الشرك بالله عز وجل كما حصل للأمم السابقة لما غلت في آثار أنبيائها وصالحيها.
وقد حذّرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من هذا الغلو، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو). وأشد ذلك إذا بُني على هذه الآثار المزعومة مساجد تزار ويصلَّى فيها؛ فإن هذا من أعظم وسائل الشرك والابتداع في الدين؛ فإن المساجد لا تُبنى إلا في الأمكنة التي فيها سكان يصلون في تلك المساجد الصلوات الخمس المفروضة، ولا يجوز تحديد مكان للعبادة يُزار ويُصلَّى فيه ويُدعى فيه إلا ما حدَّده الله ورسوله من المساجد الثلاثة التي تشدّ الرحال إليها، وهي: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وما عداها فكل الأرض سواء، فقد جعلت للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته مسجداً وطهوراً، فمن أدركته الصلاة فإنه يصلي في أي بقعة صالحة للصلاة.
والآثار المطلوب إحياؤها في عرف أهل العلم هي ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديثه الشريفة التي حثَّنا صلى الله عليه وسلم على روايتها وحفظها والمحافظة عليها والعمل بها وتبليغها للناس.
ولم يأمرنا صلى الله عليه وسلم بتتبُّع البقاع والمباني التي سكنها أو جلس فيها وبنائها والعناية بها، وإنما حدث هذا بعد القرون المفضلة لما فشا في المسلمين الجهل والابتداع والتخلف والتشبه بالأمم الأخرى، فالواجب على المسلمين أن يهتموا بإقامة دينهم والعناية بسنة رسولهم، وأن يبتعدوا عما يخالف ذلك.
كما يجب عليهم الدفاع عن رسولهم وكتابهم ضد هجمات الكفار والمشركين.
وإن أعداءنا ليفرحون إذا رأوا فريقاً من المسلمين معنيين بالتنقيب عن الآثار وتعظيمها والعناية بها؛ فالكفار يحثون على ذلك لأنهم يعلمون آثاره السيئة على دين المسلمين وعقيدتهم.
فالواجب التنبه لهذا الأمر، والابتعاد عن مثل هذه الأمور التي لا مصلحة للإسلام والمسلمين فيها، بل فيها مضرَّة عليهم وعلى دينهم. ولئن قيل: إن هذه الآثار تذكِّر بالرسول وأصحابه وتذكِّر بالسلف الماضين؛ فإن هذا مثل قول الشيطان لقوم نوح: صوِّروا صور الصالحين وانصبوها على مجالسكم لتتذكَّروا بها أحوالهم وتعملوا مثل عملهم، وكانت النتيجة أنهم عبدوها في النهاية فهلكوا. نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين لإحياء السنن وإماتة البدع والتمسك بالسنة.
ولئن قال قائل من دعاة إحياء آثار الصالحين: إن ذلك من محبتهم وإحياء ذكرياتهم، قلنا له: إن محبة الصالحين دين ندين لله به، ولكن محبتهم تقتضي اتباعهم والاقتداء بهم لا إحياء آثارهم السكنية وغيرها؛ لأن هذا من الغلو في حقهم، وقد نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن الغلو في حقه وفي حق غيره من باب أولى فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا قبري عيداً)، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال لعليٍّ رضي الله عنه: (لا تَدَعْ قبراً مشرفاً إلا سَوَّيْتَهُ). ومحبته صلى الله عليه وسلم واجبة علينا أكثر مما نحب أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، وهذا يوجب علينا طاعته في أمره واجتناب نهيه، وقد نهانا عن الغلو في الأشخاص والأماكن وفي العبادة.
نسأل الله أن يوفقنا لاتباعه والعمل بسنته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.