الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
دين الإسلام دينٌ عالمي صالحٌ لكل زمان ومكان؛ فهو يعالج مشكلات كل عصر من العصور بما يناسبه، وقد أدرك هذه الحقيقة فقهاء الإسلام – رحمهم الله – فكانوا يسعون سعياً جاداً لتجديد الفقه بما يناسب العصر الذي هم فيه، وفي هذا الزمن نجد الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهية يقومون بجهودٍ مباركة في تنزيل الفقه على المسائل المستجدة، والنظر في المسائل الاجتهادية التي قد يتغير الحكم فيها بما يتناسب مع الزمن الذي نحن فيه، وليقدم الفقه الإسلامي الحلول لمشكلات العصر الحاضر، فهو جديرٌ بأن يواكب التطور والتغير الذي حدث في كثير من نواحي الحياة ونظمها.
ومن القواعد المهمة التي شاعت عند كثير من المعاصرين، وتدلُّ على قابلية الفقه الإسلامي لاستيعاب التطور، قاعدة: (تغير الأحكام بتغير الزمان).
وهي قاعدة جليلة صاغها الفقهاء قديماً – رحمهم الله – وتناولها عدد منهم بالشرح والتوضيح، ولكن من يتأمل في استعمالات المعاصرين لها، يجد اضطراباً في فهمها، وخلطاً في ضبطها، بين موسع ومضيق لدائرة الأحكام التي تتغير بتغير الظروف والعصور.
قرر كثير من الفقهاء قديماً وحديثاً قاعدة: تغير الأحكام تبعاً لتغير الأحوال والظروف والأوضاع والعادات، وهذه القاعدة إحدى القواعد المتفرعة عن قاعدة: العادة محكمة.
وكلمة (الأحكام) الواردة في القاعدة مخصوصة بالأحكام المبنية على العرف والعادة والاجتهاد، فهذه هي التي تتغير بتغير الزمان والمكان والحال.
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: (إنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ هِيَ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنِدَةُ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ تَتَغَيَّرُ احْتِيَاجَاتُ النَّاسِ, وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّغَيُّرِ يَتَبَدَّلُ - أَيْضاً - الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَبِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ تَتَغَيَّرُ الْأَحْكَامُ حَسْبَمَا أَوْضَحْنَا آنِفاً, بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنِدَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُبْنَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ. مِثَالُ ذَلِكَ: جَزَاءُ الْقَاتِلِ الْعَمْدِ الْقَتْلُ. فَهَذَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ).
وقد عقد الإمام ابن القيم -رحمه الله- فصلا قيما في كتابه - إعلام الموقعين - واستدل عليها، ونصرها أتم نصر، ومثل لها بأمثلة كثيرة.
وقد جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أمثلة كثيرة على هذا القاعدة، وأن الحكم تغير بناءً على تغير العرف والعادة، ومن الواضح أنه ليس هناك إشكالٌ في ثبوت هذه القاعدة، لكن قد أشكل على بعض المعاصرين فهمها، وتطبيقها، وتعيين ما الثابت من الأحكام، وما المتغير.
فمن المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: أحكام مصدرها المباشر نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
القسم الثاني: أحكام مصدرها الاجتهاد، دون أن تستند مباشرةً على النصوص من الكتاب والسنة، مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص، أو على عرف، أو عادة لم ينشئها نص شرعي.
ولا خلاف أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ومراعاة منافعهم، ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان أو الحال، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح.
ففي القسم الثاني من الأحكام التي لم يكن مصدرها النص مباشرةً، لم يجد عامة الفقهاء صعوبة في تقرير أن المصلحة التي لم يأت بها نصٌ أصلاً يمكن أن تتغير، وتصبح في وقت من الأوقات مفسدة، وأن العادة والعرف التي لم ينشئها نص شرعي أصلاً، يمكن أن تتبدَّل وتتغيَّر، وحينئذ قرر الفقهاء أن الأحكام في هذا القسم – القسم الثاني – تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره - سواء كان مصلحة أو عرفاً - متصور عقلاً، وواقع أصلاً.
أما القسم الأول من الأحكام - وهي الأحكام التي تقررها النصوص الشرعية مباشرةً - فلا خلاف أن النص مقصودٌ منه تحقيق المصلحة للناس ومنفعتهم، فغاية النص الشرعي وهدفه وحكمته هي المصلحة.
فمن المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، بل إن المصالح التي تقررها النصوص الشرعية هي المصالح الحقيقية؛ ولذلك فهم الفقهاء –رحمهم الله– أن من التناقض الواضح أن يقال: إن مصلحة ما عارضت النص الشرعي.
فالنص الشرعي الثابت عدل كله، ورحمة كله، وحكمة كله، ومصلحة كله، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: (فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا, وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا, وَمَصَالِحُ كُلُّهَا, وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا).
حينئذ قرر عامة الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص الشرعي حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان.
يقول الإمام ابن حزم -رحمه الله- مؤكداً هذه الحقيقة:(إِذا وَرَدَ النَّصُّ مِنْ القُرْآنِ أَوْ السُّنةِ الثَّاَبِتَةِ فِي أَمْرٍ مَا عَلَى حُكْمٍ مَا، ثُمَّ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ قَد انْتَقَلَ، أَو بَطَلَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ انْتَقَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ المَحْكُوُمُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِ أَوْ لِتَبَدُلِ زَمَانِهِ أَوْ لِتَبَدُلُ مَكَانِهِ فَعَلَى مُدَّعِي انْتِقَالِ الحُكْمِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِي بِبُرْهَانٍ مِنْ نَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ثَابِتَةٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ قَدْ انْتَقَلَ، أَوْ بَطَلَ).
ثم قال -رحمه الله-: (فَصَحَّ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَبَدُّلِ الزَّمَانِ وَلَا لِتَبَدُّلِ المَكَانِ وَلَا لِتَغَيُّرِ الأَحْوَالِ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فَهْوَ ثَابِتٌ أَبَداً، فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَفِيْ كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى يَأْتِيَ نَصٌّ يَنْقُلُهُ عَنْ حُكْمِهِ فِيْ زَمَانٍ آخَرَ، أَوْ مَكَانٍ آخَرَ أَوْ حَالٍ أُخْرَى).
وعلى هذا فإن القاعدة الفقهية (لا ينكر تغير الأحكام بتدل الزمان) قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام، وهي الأحكام التي لا تستند مباشرةً على نص شرعي، بل مصدرها عرفٌ أو مصلحةٌ سكتت عنها النصوص الشرعية.
ويقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: (الأَحْكَامُ نَوْعَانْ: نَوْعٌ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ عَلَيهَا، لَا بِحَسَبِ الأَزْمِنَةِ، وَلَا الأَمْكِنَةِ، ولَا اجْتِهَادِ الأَئِمَّةِ، كَوُجُوْبِ الوَاجِبَاتِ، وَتَحْرِيْمِ المُحَرَّمَاتِ، وَالحُدُوْدِ المُقَدَرَةِ بِالشَّرْعِ عَلَى الجَرَائِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيِرٌ وَلَا اجْتِهَادٌ يُخَالِفُ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ المَصْلَحَةِ لَهُ زَمَانَاً وَمَكَانَاً وَحَالَاً، كَمَقَادِيرِ التَّعْزِيرَاتِ وأَجْنَاسِهَا وَصِفَاتِهَا، فِإِنَّ الشَّارِعَ يُنَوِّعُ فِيهَا بِحَسَبِ المَصْلَحَةِ).
ويزيد الإمام الشاطبي -رحمه الله- شرحاً وتوضيحاً لهذه القاعدة، فيبين أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلاً، ولم تتعرض لها إطلاقاً لا بمدحٍ ولا بذمٍ، إنما أنشأها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم، فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية، فيتغير حكمها تبعاً لتغيرها، وضرب -رحمه الله- الأمثلة على ذلك، أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة، وتعتبرها من المحاسن، أو تذمها، وتعدها من القبائح، فهذه لا تتبدل، ولا تتغير، بل هي ثابتة.
وقد توسع في هذه القاعدة (تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال) بعض المعاصرين، اعتماداً على بعض الحجج الواهية التي ليس هذا مكان بسطها ونقدها.
ويمكن تلخيص ما سبق بما يلي:
أولاً: أن الأحكام الأساسية الثابتة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، والتي جاءت الشريعة لتأسيسها بنصوصها الأصلية: الآمرة والناهية، كحرمة الظلم، والزنى، والربا، وشرب الخمر، والسرقة، وكوجوب التراضي في العقد، ووجوب قمع الجرائم، وحماية الحقوق، فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان، بل هي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال، وتتغير وسائلها فقط.
ثانياً: أن أركان الإسلام وما عُلِمَ من الدين بالضرورة لا يتغير ولا يتبدل، ويبقى ثابتاً كما ورد، وكما كان في العصر الأول؛ لأنها لا تقبل التبديل والتغيير.
ثالثاً: أن جميع الأحكام التعبدية التي لا مجال للرأي فيها، ولا للاجتهاد، لا تقبل التغيير ولا التبديل بتبدل الأزمان والأماكن والبلدان والأشخاص.
رابعاً: أن أمور العقيدة - أيضاً - ثابتةٌ لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تقبل الاجتهاد، وهي ثابتة منذ نزولها ومن عهد الأنبياء والرسل السابقين، حتى تقوم الساعة، لا تتغير بتغير الأزمان.
خامساً: أن ما يتبدل، ويتغير بتغير الزمان والمكان والحال، هو تلك الأحكام الاجتهادية التي لم يقع فيه إجماع، فهي معترك العقول، ومحل الخلاف الذي يقبل التغيير، ويتبع الأحوال المتجددة.
وبهذا يتضح لي – والله أعلم – أنه لا إشكال في هذه القاعدة، وأنه لا حجة فيها لمن يريد إباحة الربا أو الاختلاط مثلاً، أو يريد إلغاء الحدود والعقوبات، لتغير الزمان، فإن هذه الأمور المذكورة ثابتة بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة، فلا مجال لتغييرها أو تبديلها.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.