إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.أما بعد…
فمن المعلوم لدى كل مسلم أن الدعوة إلى الله من أعظم الأعمال، وأجل القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.
كيف لا ؟، وهي عمل الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - قال الله تعالى :{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً}، والميثاق هو العهود بتبليغ الرسالة، والدعوة إلى الدين القويم.[تفسير ابن كثير 3/401]
والدعوة إلى الإسلام من أوجب الواجبات قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، وقال تعالى :{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال عز وجل أيضاً:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسيِباً}، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاثة والآمرة بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وقيام الأمة بواجب الدعوة إلى الله شاملٌ لكل أفرادها، فليس في الإسلام طبقة معينة هي طبقة رجال الدين الذين يجب عليهم الدعوة فقط، ولا تجوز لغيرهم، بل كل من علم من الإسلام شيئاً صحيحاً، وفهمه فهماً سليماً، وأدرك أبعاده وأدلته، له أن يبلغه إلى غيره، ويكون مسؤولاً عن ذلك بين يدي الله عز وجل.
ومنهج الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ الإسلام للناس كافةً يقوم على النصح والإرشاد المتكرر، بالترغيب تارةً، والترهيب تارةً أخرى.
و الناس في تلقيهم لدعوة الإسلام على أقسام ثلاثة:
القسم الأول :
عامة الناس، فهؤلاء في الغالب يتقبلون ما يلقى إليهم من دعوة، فالداعية إلى الله يكرر على هؤلاء الدعوة كلما سنحت فرصة، لعله أن يهدي الله تعالى على يديه أحداً منهم، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم).[ أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، انظر الفتح: 6/169]
فإن قامت الحجة، وفهموا الإسلام، وأنه الدين الحق، ولم يدخلوا فيه ففي هذه الحالة يعرض عنهم امتثالاً لقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}، ولقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.
وهذا القسم من الناس لا ينفع معهم الجدال والمناظرة ؛ لأنهم ليسوا مؤهلين لذلك ولا يعرفون أصول الجدل والمناظرة.
القسم الثاني :
المثقفون والمتعلمون الذين يعرفون حقيقة دعوة الإسلام، لكن الشيطان يصدهم عن قبول الحق، فإن هؤلاء يدعون إلى الدين، وتكرر عليهم الدعوة حتى يدخلوا في الدين الحق، فإن أعرضوا، ولم يقبلوا الحق، ففي هذه الحالة يجادلون بالحسنى كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، وهؤلاء في الغالب ينفع معهم الجدل والنقاش بخلاف غيرهم.
القسم الثالث :
دعاة الضلال، ومن عرف بالدعوة إلى دينه، وكان عارفاً لدين الإسلام بأدلته، لا يخفى عليه الحق، ولكنه مكابر ومعاند، فهؤلاء إن عرف منهم ذلك، وتحقق أن الحجة قامت عليهم، فإنه لا يكرر عليهم البلاغ، ولا يدعون إلى الإسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :( من أظهر أن الحجة قامت عليه، وأنه لا يهتدي فإنه لا يكرر التبليغ عليه ).[فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 16/163]
فيتضح مما سبق أن الدعوة إلى الله تعالى واجبةٌ على المستطيع الفاهم لدين الإسلام العارف لأحكامه، فيعرض الإسلام على غير المسلمين بالطريقةِ السهلة الميسرة، ويكرر العرض عليهم حتى تقوم الحجة.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه في كل محفل، وفي كل حين، بل كان -صلى الله عليه وسلم- يصعد على الصفا، وينادي العشائر والقبائل، وكان يكرر هذا الفعل كل مرة.[انظر فتح الباري 8/609 ]
أيضاً موقفه -صلى الله عليه وسلم- مع عمه أبي طالب، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكرر عليه الدعوة، وعمه في سكرات الموت فيقول:( يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله ).[أخرجه البخاري في فضائل الأنصار، باب قصة أبي طالب، انظر الفتح 7/233]
كما أن نبي الله نوحاً عليه السلام مكث في قومه ألف سنه إلا خمسين عاماً يدعوهم ويكرر عليهم الدعوة بالليل والنهار بالسر والجِهَار، حتى عاقبهم الله تعالى بالطوفان، قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
وكل عمل من أعمال الخير لا بد أن تكون له آثار طيبة ونتائج حميدة، والدعوة إلى الله تعالى من أجل أعمال الخير، وهي وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم على مر العصور، فمن آثار الدعوة إلى الله تعالى على سبيل المثال:
1- امتثال أمر الله عز وجل بقوله :{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}، وقوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}، وقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، والأمر للرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرٌ لأمته ما لم يدل دليل على التخصيص، فكما أنه -صلى الله عليه وسلم- مأمور بالدعوة، فأمته مأمورةٌ بذلك، بل قد أمرها الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}، وقوله:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
2- الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}.
3- تبليغ دين الله تعالى إلى الناس كافةً تبليغاً مكرراً، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبليغ عنه، فقال في الحديث الذي يرويه عنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيةً )، [أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم:3461 انظر الفتح 6/496]، وكان من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، كما أخبر بذلك أنسٌ رضي الله عنه خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، [أخرجه البخاري في العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه، برقم:95 انظر الفتح 1/227]، ومن لم يقم بواجب التبليغ، وكان عالماً بدين الله، فقد كتم العلم الذي أعطاه الله، وقد توعد الله الذين يكتمون العلم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ}، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:(من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) [أخرجه الحاكم في العلم 1/182، وقال: على شرط الشيخين وليس له علة، ووافقه الذهبي].
4- هداية من أراد الله هدايته بسبب الدعوة، وحصول الأجر العظيم لمن دعاة، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في قوله :(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أُجُور من تبعه لا ينقص ذلك من أُجُورِهِم شيئاً) [أخرجه مسلم في العلم، باب من سن سنة حسنة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة 16/227].
ومن لم يقبل الدعوة فقد قامت عليه الحجة، فلا يدعى بعد ذلك، ولا يكرر عليه.
هذا والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم