إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفرة ونستهدي، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مظل له، ومن يظلل فلا هادي له .....
أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهَا وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ، وَمَوعِظَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ نَافِعَةٌ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وَاعلَمُوا - رَحِمَنِي اللهُ وَإِيّاكُمْ- أَنَّ العَمَلَ فِي دِينِنَا الإِسلاَمِيِّ لَهُ مَكَانَةٌ عَالِيَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ سَامِيَةٌ، لِمَا لَهُ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ فِي بِنَاءِ الأُمَمِ وَالحَضَارَاتِ، وَرُقِيِّ الأَفْرَادِ وَالمُجتَمَعَاتِ، فَالأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- وَهُمْ صَفْوَةُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ عَمِلُوا فِي شَتَّى المَجَالاَتِ وَالمَيَادِينِ، فَقَدْ عَمِلَ بَعْضُهُمْ فِي رَعْيِ الغَنَمِ وَالتِّجَارَةِ، وَالحِدَادَةِ وَالخِيَاطَةِ وَالنِّجَارَةِ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَلَهُ عَمَلٌ أَو مِهْـنَةٌ يَكْسِبُ عَيْـشَهُ وَرِزقَهُ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِيَعِيبَهُمْ، أَو يُقلِّلَ مِنْ شَأْنِهِمْ.
إِنَّ تَوظِيفَ الإِنْسَانِ فِي عَمَلٍ أَو حِرفَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَاجِبٌ عَلَى الإِنْسَانِ القَادِرِ، ذَلِكَ لأَنَّ المُجتَمَعَاتِ لاَ يُمكِنُ أَنْ يُكْتَبَ لَهَا النَّجَاحُ وَالرُّقِيُّ إِلاَّ بِتَوظِيفِ أَبنَائِهَا فِي مُخْتَلَفِ الأَعْمَالِ، وَحَفْزِهِمْ عَلَى البَذْلِ وَالعَطَاءِ وَنَبْذِ الاتِّكَالِ، فَالوَظِيفَةُ فِي مَفْهُومِهَا هِيَ تَقْدِيمُ خِدْمَةٍ أَو عَمَلٍ تَتَحَقَّقُ بِهَا مَصَالِحُ العِبَادِ، وَتَحْصُلُ مِنْهَا مَنِافِعُ تَعُمُّ البِلاَدَ، وَالوَظِيفَةُ تَتَضَمَّنُ مَجْمُوعَةً مِنَ الوَاجِبَاتِ وَالمَسؤولِيَّاتِ، وَتُوْجِبُ عَلَى شَاغلِهَا مَهَامَّ والتِزَامَاتٍ، مُقَابِلَ تَمَتُّعِ شَاغِلِهَا بِحُقُوقٍ مَادِّيَّةٍ وَامتِيَازَاتٍ، وَكُلُّ عَمَلٍ يُوَظَّفُ فِيهِ الإِنْسَانُ وَيَتْعَبُ فِيهِ مِنْ أَجْـلِِ نَفْسِهِ وَأَهْـلِهِ وَوَطَنِهِ، فِيهِ ثَوابٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَتَطْهِيرٌ لِلنَّفْسِ وَتَكْفِيرٌ لِلذُّنُوبِ.
أَيُّهَا المُؤمِنُونَ: إِنَّ الوَظِيفَةَ مَسؤُولِيَّةٌ وَأَمَانَةٌ، لاَ يَشْغَلُهَا إِلاَّ مَنْ يَستَحِقُّهَا، وَلاَ يَستَحِقُّهَا إِلاَّ مَنْ تَوافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ عَمَلِهَا وَأَدَائِهَا، أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَصْطَفِ طَالوتَ عَلَى قَوْمِهِ إِلاَّ لأَنَّهُ قَدْ حَازَ صِفتَيْنِ مَطْلُوبَتَيْنِ قَدْ تَوَافَرَتَا فِيهِ، وَتَنَاسَبَتَا مَعَ مَهَامِّهِ وَمَا يُوكَلُ إِلَيْهِ، أَلاَ وَهِيَ صِفَةُ العِلْمِ وَالقُوَّةِ، (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَنْصَحُ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم - بِألاَّ يَتَولَّى الأَعْمَالَ مَنْ كَانَ ضَعِيفاً لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ تَستَعْمِلُنِي؟ -أَي هَلاَّ وَكَلْتَ إِليَّ عَمَلاً أَقُومُ بِهِ- قَالَ: فَضَربَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهِا وَأَدَّى الذِي عَلَيْهِ فِيهَا).
إِنَّ الأَمَانَةَ وَالقُدْرَةَ عَلَى تَحَمُّلِ المَسؤُولِيَّةِ مِعْيَارٌ جيد لِشَغْلِ الوَظِيفَةِ عِنْدَ تَزَاحُمِ المُتَنَافِسِينَ، وَاخْتِيَارٌ نَاجِحٌ لِلالتِحَاقِ بِسِلْكِ المُوَظَّفِينَ، فَالأَكْفَاءُ هُمُ الذِينَ يَستَطِيعُونَ القِيَامَ بِالعَمَلِ بِإِجَادَةٍ وإِتْقَانٍ، وَأَدَاءَهُ بِجَدَارَةٍ وَاستِحْسَانٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)، وَإِنَّ وَضْعَ الرَّجُلِ المُنَاسِبِ فِي المَكَانِ المُنَاسِبِ يُحَـقِّقُ لِلْوَظِيفَةِ الغَايَةَ المَرْجُوَّةَ، فَيُحْصَدُ مِنْهَا أَطْيَبُ الثِّمَارِ اليانِعَةِ، وَأَفْضَلُ النَّتَائِجِ النَّافِعَةِ، أَمَّا مَنْ كَانَ تَوظِيفُهُ مِنْ مَبْدأِ الخِدْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ كُفءٍ لِلْوَظِيفَةِ، فَإِنَّهُ لاَ مَحَالَةَ سَيَخْلُقُ عُطْلاً فِي أَدَاءِ العَمَلِ، فَتُصَابُ الإِنْتَاجِيَّةُ مِنْ جَانِبِهِ بِضَعْفٍ وَخَلَلٍ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْوَظِيفَةِ وَلَيْسَ مِنَ الأَكْفَاءِ، فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُ النَّاسِ أَو تَضِيعُ حُقُوقُهُمْ، وَقَدْ يَتَرتَّبُ عَلَى المُحَابَاةِ فِي التَّوظِيفِ انْتِشَارُ الظُّلْمِ وَالأَحقَادِ، فَتَسُودُ الأَثَرَةُ وَالأَنَانِيَّةُ بَيْنَ الأَفْرَادِ، وَلِذَلِكَ نَهَى الإِسلاَمُ عَنِ المُحَابَاةِ فِي تَولِيَةِ غَيْرِ الأَكْفَاءِ فِي الوَظَائِفِ وَالأَعْمَالِ، إِنَّ مِنْ وَاجِبِ المَسؤولِينَ الذِينَ وُكِلَ إِلَيْهِمُ اختِيَارُ الأَشْخَاصِ لِلْوَظَائِفِ أَنْ يُراعُوا فِي المُتَقدِّمِينَ شُروطَ مُتَطَلَّبَاتِ الوَظِيفَةِ وَمُؤهِّلاَتِهَا، وَاجتَيَازِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ اختِبَارَاتِهَا، مِنْ غَيْرِ انْحِيَازَاتٍ شَخْصِيَّةٍ، وَلَكِنْ مِنَ مَبْدأِ الكَفَاءَةِ وَالأَفْضَلِيَّةِ، فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي فُرَصِ العَمَلِ المُتَاحَةِ العَدْلُ وَالمُسَاوَاةُ، وَتَنْـتَفِي الانْحِيَازِيَّةُ وَالمُحَابَاةُ، وَيَسُودُ التَّعَاوُنُ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجتَمَعِ لِمَا فِيهِ صَلاَحُ مُجتَمَعِهِمْ، وَمَنْفَعَةُ بَلَدِهِمْ، قَالَ تَعالَى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الوَظِيفَةَ لِلْمُوظَّفِ تَشْرِيفٌ، وَأَمَانَةٌ وَتَكْلِيفٌ، لِذَلِكَ أَمَرَ الإِسلاَمُ بِالتَّقَيُّدِ بِضَوابِطِ الوَظِيفَةِ وَصَلاَحِيَّاتِهَا، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا يُنَافِي الأَمَانَةَ فِي أَدَائِهَا، لأَنَّ الوَظِيفَةَ عَقْدٌ بَيْنَ رَبِّ العَمَلِ وَالمُوَظَّفِ، وَجَبَ عَلَى كِلاَ الطَّرَفَيْنِ احتِرَامُ ذَلِكَ العَقْدِ، والالتِزَامُ بِمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ عَهْدٍ، فَالمُسلِمُونَ عِنْدَ شُروطِهِمْ، قَالَ تَعَالَى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وَمِنَ الأَمَانَةِ فِي الوَظِيفَةِ أَنْ يَحْرِصَ المُوَظَّفُ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِهِ كَامِلاً فِي العَمَلِ الذِي عُهِدَ إِلَيْهِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ التِي وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلاَ يُهْمِلُ فِي أَدَاءِ أَيِّ عَمَلٍ مَهْمَا كَانَ صَغِيراً، يَقُولُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم –: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ لَنَا عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَما فُوقَهُ فَهُوَ غُلٌّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَقَامَ رَجُلٌ أَسْوَدُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : اقْبَلْ عَنِّى عَمَلَكَ قَالَ :« وَمَا ذَاكَ؟ ». قَالَ : سَمِعْتُكَ تَقُولُ الذي قُلْتَ قَالَ :« وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَأْتِنَا بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَما أُعْطِىَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِىَ عَنْهُ انْتَهَى)، وَإِذَا مَا أُسنِدَتْ إِلَيهِ مَهَامُّ إِنْجَازِ المُعَامَلاَتِ، وَمَا يَخُصُّ المُراجِعِينَ عَلَى اختِلاَفِ الجِنْسِيَّاتِ، فَعَلَيْهِ أَلاَّ يُحَابِيَ أَحَداً فِي المُعَامَلَةِ، أَو يُقَدِّمَ شَخْصاً لِمَصلَحَةٍ أَو مَنْفَعَةٍ شَخْصِيَّةٍ، لأَنَّ فِي ذَلِكَ إِجْحَافاً بِحُقُوقِ الآخَرِينَ، حَذَّرَ مِنْهُ رَبُّ العَالَمِينَ، إِذْ قَالَ المَولَى عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).
إِنَّ المُوَظَّفَ الذِي يَسْعَى فِي وَظِيفَتِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاوِناً مَعَ المُرَاجِعِينَ فِي إِنْجَازِ مُعَامَلاَتِهِمْ، دَائِمَ الحِرْصِ عَلَى عَدَمِ تَجَاهُلِهِمْ، يَنَالُ مِنْ عَمَلِهِ هَذَا حُبَّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضَاهُ، ويُكْتَبُ لَهُ السَّعَادَةُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، فَلَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم –: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم –: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ)، إِنَّ هَذَا الأَجْرَ إِنَّمَا يَنَالُهُ المُوَظَّفُ إِذَا بَادَرَ فِي إِنْجَازِ سَائِرِ المُعَامَلاَتِ، مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ أَو اختِلاَقِ عَقَبَاتٍ، وإِنَّ استِشْعَارَ المَسؤُولِيَّةِ وَالمُبَادَرَةَ فِي إِنْجَازِ العَمَلِ يُبْعِدُ عَنِ العَامِلِ تَرَاكُمَ الأَعْمَالِ؛ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ إِنْجَازُهَا، وَلاَ يَتَسبَّبُ فِي تَأْجِيلِ مُعَامَلاَتِ النَّاسِ أَو تَعْطِيلِهَا، وَإِذَا كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَنْ إِنْجَازِ العَمَلِ وَالمُبَادَرَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْراً يَجِبُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ، أَلاَ وَهُوَ أَخْذُ الرِّشْوَةِ لإِنْجَازِ العَمَلِ، لأَنَّهُ مَسلَكٌ شَائنٌ فَي إِنْجَازِ العَمَلِ لَدَى المُوَظَّفِينَ، كَيْفَ لاَ؟ وَالرِّشْوَةُ سُحْتٌ وَحَرَامٌ، حَذَّرَ مِنْهَا دِينُ الإِسلاَمِ، إِذْ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: (لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالمُرتَشِيَ)، وَقَالَ – صلى الله عليه وسلم –: (مَنِ استَعْملْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزقْنَاهُ، فَمَا أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ- أَي فَهُوَ خِيَانَةٌ وَسَرِقَةٌ لاَ تَجُوزُ-)، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عَلاَقَةَ المُوظَّفِ بِوَظِيفَتِهِ عَلاَقَةٌ يَربِطُهَا حُبُّ أَدَاءِ العَمَلِ وَإِتْقَانِهِ، وَالسَّعْيُ نَحْوَ التَّمَيٌّزِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ واستِهَانَةٍ، فَالسَّعْيُ لإِتْقَانِ العَمَلِ لِلْمُوظَّفِ مَطْلَبٌ وَأَمَانَةٌ، حَثَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ قَالَ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ).
إِنَّ المُوظَّفَ المِثَالِيَّ دَائِمُ التَّميُّزِ فِيمَا يُوكَلُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالٍ، لاستِشْعَارِهِ بِرَقَابَةِ اللهِ الوَاحِدِ المُتَعَالِ، فَهُوَ دَائِمُ الالتِزَامِ بِالحُضُورِ وَالانْصِرَافِ فِي وَقْتِ العَمَلِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، لاَ يُبَدِّدُ وَقْتَ عَمَلِهِ فِيمَا لاَ طَائِلَ مِنْهُ، وَلاَ يَتَذمَّرُ مِنَ العَمَلِ المَوكُولِ إِلَيْهِ، دَائمُ السَّعْيِ لِخِدْمَةِ الآخَرِينَ فِي تَسْهِيلِ أُمُورِهِمْ، وَإِنْهَاءِ مُعَامَلاَتِهِمْ، مُحْـتَسِباً الأَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ، لِيَنَالَ مِنْ عَمَلِهِ هَذَا مَنَازِلَ الأَبْرَارِ، وَالأَمْنَ مِنْ عَذَابِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، مِصْدَاقاً لِقَولِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ قَالَ: (إِنَّ لِلهِ تَعَالَى عِبَاداً اختَصَّهُمْ بِحَوائِجِ النَّاسِ، يَفْزَعُ النَّاسُ إِلَيْهِمْ فِي حَوائِجِهِمْ، أُولَئكَ الآمِنُونُ مِنْ عَذَابِ اللهِ).
كَمَا أَنَّ الصِّدقَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ المُوَظَّفِ المِثَالِيِّ، فَهُوَ يَتَحَرَّى الصِّدقَ فِي قَولِهِ وَعَمَلِهِ، وَأَمَامَ مَسؤولِيهِ وَزُمَلاَئهِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
وَالمُوظَّفُ المِثَالِيُّ مُخْلِصٌ فِي عَمَلِهِ، بَعِيدٌ عَنْ مَسلَكِ التَّزْوِيرِ فِي المُعَامَلاَتِ، وَالتَّقَاعُسِ عَنْ إِنْجَازِ المُعَامَلاَتِ. كَمَا أنَّ التَّواضُعَ صِفَةٌ مُلاَزِمَةٌ لَهُ فِي مَكَانِ عَمَلِهِ وَخَارِجَهُ، يَقُولُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم –: (مَنْ تَواضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ اللهُ)، فَالمَسؤولُ المُتَواضِعُ يَتَفقَّدُ زُمَلاَءَهُ المُوظَّفِينَ ويُرَاعِي حَاجَاتِهِمْ، وَيَحفِزُهُمْ لأَدَاءِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى الوَجْهِ المَطْلُوبِ، فَيَشِيعُ رُوحُ الفَرِيقِ الوَاحِدِ بَيْنَ المَسؤُولِ وَالعَامِلِينَ مَعَهُ، وَيُفْسَحُ المَجَالُ بَيْنَ المُوَظَّفِينَ لِتَقْدِيمِ النُّصْحِ فِيمَا يَخُصُّ مَصْلَحَةَ العَمَلِ.
وَكَذَا المُوظَّفُ المِثَالِيُّ يَتَواضَعُ لِزُمَلاَئهِ المُوظَّفِينَ، كَمَا يَتَواضَعُ لأُولَئكَ المُرَاجِعِينَ، فَيُقَدِّرُ حَاجَاتِهِمْ، وَيَجتَهِدُ فِي خِدْمَتِهِمْ، وَيَسْعَى لاحتِرَامِهِمْ، فَهُوَ دَائمُ البَشَاشَةِ عِنْدَ لِقَائِهِمْ؛ لِقَولِهِ – صلى الله عليه وسلم –: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ).
فَحَرِيٌّ بِالمُسلِمِ أَنْ يُعَامِلَ زُمَلاَءَ العَمَلِ وَالمُرَاجِعِينَ بِالحُسْنَى، قَالَ تَعَالَى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)، كَمَا أَنَّ العَدْلَ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ العَمَلِ وَمَسؤولِيهِ تِجَاهَ المُوظَّفِينَ، وَذَلِكَ بِالمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ الحُقُوقِ بَيْنَ المُتَمَاثِلِينَ، فَلاَ يُمَيِّزُ مُوَظَّفاً عَلَى غَيْرِهِ عَلَى أَسَاسٍ شَخْصِيٍّ، أَو يَظْلِمُهُ فِي تَقْوِيمِ أَدَائِهِ الوظيفي، فَفِي ذَلِكَ إِخْلاَلٌ بِمَبْدأِ العَدَالَةِ فِي الوَظِيفَةِ وَوُقُوعٌ فِي الظُّلْمِ الذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ الشَّرِيفِ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظَالَمُوا).
إِنَّ المُوَظَّفَ المِثَالِيَّ حَرِيصٌ عَلَى كَسْبِ المَهَارَاتِ وَالخِبْرَاتِ، وَبَذْلِ الجُهْدِ لِيَرتَقِيَ فِي وَظِيفَتِهِ أَعلَى المَنَاصِبِ وَالدَّرَجَاتِ، وَهُوَ حَرِيصٌ أَيْضاً عَلَى سُمْعَةِ وَظِيفَتِهِ وَأَسْرَارِهَا، فَلاَ يُفْشِي أَسْرَارَ مِهْـنَتِهِ، وَلاَ يُسِيءُ إِلَى سُمْعَةِ وَظِيفَتِهِ، لِمَا فِي الوَظِيفَةِ مِنْ أَسْرَارٍ تَخُصُّ المُوَظَّفِينَ، وَتَتَعلَّقُ بِمَصَالِحِ المُرَاجِعِينَ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الإِسلاَمَ قَدْ أَمَرَنَا بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ – صلى الله عليه وسلم –: (استَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالكِتْمَانِ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- فِي وَظَائِفِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَسَخِّرُوهَا لِمَا فِيهِ مَصلَحَةُ مُجتَمعَاتِكُمْ، يَرْضَ رَبُّكُمْ عَنْكُمْ، ويُحَـقِّقْ لَكُمْ جَمِيعَ آمَالِكُمْ. أقُولُ قَوْلي هَذَا