إن الحمد لله، نحمده ونستعينه...
أما بعد: إن نِعم الله علينا عظيمة، أكرمنا الإيمان وأعزنا بالإسلام، وجعل لنا نوراً من القرآن، وجعل لنا بياناً من هدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يبقى لنا إلا أن نعرف ثوابت ديننا، وأن نرجع إلى قواعده المتينة، ففي التمسك بهذه الثوابت كل أسباب القوة في الرأي وبيان الحق، وفي عزيمة النفس وشجاعة القلب، وفي ثبات الموقف على الحق وأصالة المواجهة، ذلك يجعلنا عباد الله نقف هذه الوقفات مع هذه القواعد والثوابت المهمة في حياة الأمة.
القاعدة الأولى: المرجعية الكلية الشاملة في كل شأن من الشؤون، وفي كل خطب من الخطوب، وفي كل حدث من الأحداث، ليس لنا من مرجع إلا كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ؛ فإن هذه المرجعية المطلقة الشاملة المعصومة بإذن الله عز وجل وبرحمته وحكمته من كل تحريف وتغيير وتبديل، والمستمرة في صلاحيتها في كل زمان ومكان، والمتضمنة لحلول كل المشكلات، وإجابة جميع التساؤلات، وتفريج جميع الكربات، هذه المرجعية عباد الله، يجب أن لا نحيد عنها، وأن لا نبحث عن الهدى في غيرها، وأن لا نرجع للبحث عن صحة الحق أو ثباته في شيءٍ سواها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
وكما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)، فهذا هو النهج القويم الذي اختاره الله عز وجل للأمة الخاتمة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
فهل بعد هذه الوصية من وضوح وتأكيد وبيان وتنبيه إلى عدم مفارقة هذه المرجعية العظيمة؟ إنها مرجعية حق لا ضلال معها.
يقول سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وقد بيّنت لنا آيات الله عز وجل ذلك بياناً واضحاً: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}، وقد خوطب رسولنا -صلى الله عليه وسلم- والخطاب له ولأمته من بعده: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
عباد الله: إنها مرجعية حق، لا يمكن أن يكون الحق في غيرها بحال من الأحوال، لأنها شريعة الله، وإذا تأملنا ذلك؛ فإن كل شيءٍ يخرج بنا عن هذه الجادة، فإنما هو ضلال تضطرب به الأهواء وتضطرب به الآراء، وتموج فيه الأفكار، ويكثر فيه الخصام، وينعدم فيه الوئام، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
ثم إن هذه المرجعية لها صفة الكمال المطلق، قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: " لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كمّل الدين بشهادة الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}"، فنحمد الله تعالى على هذا الكمال، وبذلك نستغني عن كل شيء، وعن كل مذهب، وعن كل قانون، مهما جُعلت له الأسماء، ومهما اجتمعت عليه الآراء، ومهما وقعت عليه الجماعات؛ لأن عندنا ما نستغني به عن كل ذلك: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " أصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل، وكل من له مسكة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على الشرع، وما استحكم الأمران - أي الرأي أو الهوى - في أمة إلا فسد أمرهم تمام الفساد".
هذه عباد الله أصول تلك المرجعية كما ذكرها أهل العلم؛ أولها: كتاب الله الذي هو خير الكلام وأصدقه، فلا تقدموا على كلام الله كلام أحد من الناس، والثاني: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما أُثر عنه من هدي وطريقة فلا تقدموا على ذلك هدي أحد من الناس، والثالث: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل ظهور البدع والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه، ووزنوه بهذه الأصول الثلاثة، وأرجعوه إليها فهذه قضية ثابتة، ومرجعية كلية كاملة، هي إحدى عواصم كل مسلم من كل فتنة بإذن الله.
القاعدة الثانية: الحرمة العظيمة لهذا الدين العظيم، لكتاب الله عز وجل، ولرسوله الهدى -صلى الله عليه وسلم-، بل والحرمة العظيمة للمسلم المؤمن الذي يؤمن بالله، ويؤمن برسوله -صلى الله عليه وسلم-، المسلم المؤمن له حرمة عظيمة في كل شيء يتصل به، وفي كل أمر يتعلق به، هذا الدين قد حمى جناب المسلم حماية عظيمة، ليس في دمه فحسب، بل في دمه وماله وعرضه، بل حتى فيما هو أقل من ذلك، أليس قد قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يُحزنه)، بمجرد إدخال الحزن على المسلم جاء النهي لئلا يكون على هذا المسلم شيء يزعجه أو يضره أو يؤذيه : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، وفي حديث البراء في سنن ابن ماجة بسند صحيح، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( لَزوال الدنيا أهون على الله - عز وجل - من قتل امرئٍ مسلم بغير حق ). فهذه قاعدة مهمة في الحرمة العظيمة للمسلم.
القاعدة الثالثة: في المنزلة العظيمة لأمة الإسلام، وأنها لابد أن تكون الأعلى والأسمى، وأن لا تُعطي الدنية في دينها، وألا تخالف أمر ربها، وألا تضعف ولا تجبن أمام أعدائها، وألا تذل لخصومها، وألا تمالئ وتوالي وتعادي على غير منهج ربها ودينها، والله سبحانه وتعالى تكفل بالنصر والتمكين لهذه الأمة، وجعل ذلك سنة ماضية في حال تمسك الأمة بدينها، واستمساكها بإسلامها، واعتصامها بربها قال تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، فأمة الإسلام هي أشرف الأمم، بل هي الشاهدة على الأمم يوم القيامة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }.
القاعدة الرابعة: من الثوابت التي يجب أن نؤمن بها، العداوة الشديدة التي بيّن الله عز وجل لنا أنها تملأ قلوب أهل الكفر على أهل الإسلام والإيمان، وإن لم يكن ثمّة مواجهة أو معاداة أو أحداث بعينها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد قضى أمره، واقتضت حكمته أن يكون الصراع بين الحق والباطل باقياً ما بقيت هذه الدنيا، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق، كما أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
تأمل أخي المسلم آيات القرآن، قال تعالى: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، آيات تتلى إلى قيام الساعة، وحقائق وثوابت بيِّنة ساطعة، وعبارات واضحة ناصعة { إِن يَثْقَفُوكُمْ } إن يجدوكم في كل حال، وفي كل زمان وفي كل مكان، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، لابد أن نوقن ونصدّق عباد الله بكتاب ربنا، يجب علينا أن نؤمن عباد الله بكلام خالقنا، ويجب علينا أن نطَّرح كلام غيره من البشر، كثيراً ما يخبرنا الله عز وجل عن الكفار بقوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، والآيات تكشف كشفاً عظيماً واضحاً بيناً لا لبس فيه أن العدامة بين الكفر والأيمان بين المسلمين والكفار عداوة دينية ليست دنيوية، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
أليست عباد الله هذه آيات واضحة تبيِّن لنا الحقائق ؟ فما بالنا لا نرجع إليها، وما بال البعض من المسلمين هداه الله يبحث عن غيرها، أو يضطرب عندما يمر به ما يناقضها أو يعارضها من أمور الدنيا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}.
عباد الله: القواعد والثوابت في دين الإسلام كثيرة، فإذا استمسكنا بها فنحن جديرون بأن نكون خير أمة أخرجت للناس، ونكون حينئذٍ أقوى الأمم وأعزها، نسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيها أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...