الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،، وبعد
فقد قال الله تعالى في محكم كتابه:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}.
اعلم أخي القارئ الكريم أن لديننا الإسلامي الحنيف مع حساب الزمن موقفٌ واضح؛ إذ ربط ذلك بالهلال والأشهر الهلالية، فربط به الحساب وتقدير الأوقات في أمور الدين والدنيا والتشريع، {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ يُفَصّلُ الآيَـتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، لقد قدر الله بمنّه ولطفه القمر منازل، وجعل له أحوالاً من الإهلال والإبدار، لنعلم عددَ السنين والحساب، فجاءت كثير من الأحكام والتشريعات مرتبطة بالأوقات، فقال تعالى في شأن الصلاة: {إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـباً مَّوْقُوتاً}، وقال تعالى عنها: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}، وقال تعالى عن الصوم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس، قال تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ}، وقال تعالى عن زكاة الزروع والثمار:{وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، وقال تعالى عن أقل مدة يمكن أن تحمل فيها المرأة مع إتمام مدة الرضاعة: {وَحَمْلُهُ وَفِصَـلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}، وقال تعالى عن عدة اليائس ومن لا تحيض {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، فكل هذه عباداتٌ وأحكام موقوتة في مواقيت محدودة، مرتبطة بالزمن.
وارتباط حسابِ الزمن بالأهلة فيه يسرٌ وسهولةٌ على العباد، فحدد الشرع لأوقات العبادات علاماتٌ واضحة، لا يختص بمعرفتها فئة من الناس دون فئة أخرى، بل يشترك في إدراكها والعلم بها العامة والخاصة، فلم ترتبط بوسائل غامضة ولا بتقنيات تكنولوجية معقدة ولا بحسابات دقيقة، بل أُنيطت بأمور محسوسة، وعلامات مشاهدة، وكواكب سيارة، يعرفها المتعلم والأمي، والحاضر والبادي، ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلَّفون أجمعون، من رؤيةٍ وطلوع وغروب وظلٍّ وزوال.
لقد أُنيط ضبط كثير من الأمور الموقوتة المتعلِّقة بالعبادات والمعاملات بما تدركه عقول عموم المكلَّفين، وما جرت عليه عاداتهم، ولم يكلَّفوا في شؤونهم العامة قوانين دقيقة، ولا مقاييس لا يدركها إلا مختصّون أو قلة من المختصين، والسر في ذلك أن مزيدَ التدقيق في التوقيت تضييق وحرج، فإذا ما دقّت وسائل التوقيتات ضاق الحال على المكلَّفين.
من أجل هذا ـ أيها القارئ الكريم ـ كان مدار الأحكام والتعاملات على أمور ميسَّرة يعرفها العامة والخاصة، وبناءً على ذلك فقد علَّق الشارع الأحكام المرتبطة بالأشهر على الأهلة بإحدى طريقتين: إما رؤية الهلال، وإما إكمال العدة ثلاثين، وهما طريقتان ميسّرتان، يعرفهما عموم الخلق، فهو ربط بأمر محسوس، يستوي في إدراكه جميع البشر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا ثلاثين) أخرجاه في الصحيحين، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي. والشهر الهلالي يكون تارة ثلاثين يوما، وتارة تسعة وعشرين يوما، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) أخرجه الشيخان وغيرهما. وأصحّ المعلومات ما شوهد بالبصر، وسمِّي الهلال هلالاً لظهوره وبيانه، والحكم مبنيٌ على رؤية الهلال بالبصر، لا على ولادته، ولا على وجوده في السماء، فإن لم يُرَ بالبصر أكمل الناس عدةَ الشهر ثلاثين يوماً، ففي الحديث الصحيح: (فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين)، وهو توجيه جليّ، لأن الهلال إذا لم يُر بسبب حائلٍ من غمام أو غبار فإن المطلوب إكمال ثلاثين يوماً، ولا يتكلّف المسلمون أكثر من ذلك. والرؤية شيء حسِّيّ عملي، وليست فكراً ولا حساباً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم إلا برؤية محقّقة أو بشهادة شاهد واحد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً" انتهى كلامه رحمه الله.
وقد تواترت الأحاديث بالأمر بالصيام إذا رئي هلال رمضان، والفطر إذا رئي هلال شوال، وإتمام العدة ثلاثين إذا لم يُر الهلال، فالحكم متعلّق بالرؤية، كما أن علم الحساب قديم وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أعلم الناس بالحساب وكذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيره كثير من الصحابة الكرام كانوا يعلمون الحساب ومع ذلك لم يعتمدوا عليه في دخول الشهر وخروجه وذلك لعلمهم أن الشرع الحكيم أناط دخول الشهر بالرؤية البصرية.
ثم لنعلم أن استخدام المراصد الفلكية والاستعانة بها في تحديد مكان الهلال ورؤيته أمر جائز لا حرج فيه، وقد صدرت فتوى بذلك من هيئة كبار العلماء في هذه البلاد المباركة وذلك لأن الرؤية من خلال المرصد الفلكي رؤية بالعين.
إن اختلافَ مطالع الأهلة بين البلدان والأقاليم أمر متقرِّر عند أهل الشأن، ولكن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا إذا رئي الهلال في بلد أو إقليم فهل يلزم جميع البلدان الصيام؟
فذهب جمهور أهل العلم إلى أن لكل قوم رؤيتهم، وذهب طوائف من أهل العلم إلى القول بلزوم الصوم على الجميع، والأمر في هذه المسألة واسع، والاجتهاد فيها فسيح، غيرَ أنه لا ينبغي التهويل ولا الإرجاف في أن اختلاف الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة للتفكّك والنزاع، فالدعوة إلى وحدة المسلمين واتحادهم أمرٌ غير مختلَف عليه، بل ومن أعظم المطالب الشرعية، وينبغي على أهل العلم والدين والفكر والرأي تكريس الجهد وتكثيف العمل من أجل هذه الوحدة العظيمة، ولكنَّ اختلاف المسلمين في يوم صومهم ويوم فطرهم لا أثر له في هذا المطلب السامي، لأن المسلمين كانوا متّحدين مع اختلافهم في وقت دخول الشهر وخروجه، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوافق معاوية رضي الله عنه في الشام في يوم الدخول ولا في يوم الخروج، ولم تتفرّق القلوب، ولم يتشتّت شملُ الأمة الموحدة.
أخرج مسلم في صحيحه عن كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما:(أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ رضي الله عنها بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما بِالشَّامِ, قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا, وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ, فَرَأَيْنَا الْهِلَالَ، يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ, فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الْهِلَالِ, فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ, فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْته؟ قُلْت: نَعَمْ, رَآهُ النَّاسُ, وَصَامُوا, وَصَامَ مُعَاوِيَةُ, فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ, فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ, أَوْ نَرَاهُ, فَقُلْت: أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا, هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم).
إن من الجميل والأولى الاشتغال بما يجمع الكلمة من الحكم بشرع الله، ورسم طريق الإصلاح على وفق العقيدة السلفية الصحيحة الخالية من البدع والخرافات، وسلامة القلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتربية أبناء المسلمين على منهج الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
والواجب على الجميع تقوى الله عز وجل وأن نستقبل شهر رمضان الكريم بالعزم على اغتنام أوقاته بما يقرب إلى مرضاته سبحانه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان ونحن والأمة الإسلامية في عز وتمكين ورغد عيش وصلى الله وسلم على نبينا محمد