النظر للمخطوبة

النظر للمخطوبة

  الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه وسلم أما بعد…

فمن المعلوم لك أيها القارئ الكريم أن النظر إلى المرأة من أجل الزواج أحد الرخص التي أكَّد عليها الإسلام، وجعلها من الحالات الاستثنائية التي تعطي الشخص الأجنبي حكم الجواز من عموم الأجانب الذين يحرم نظرهم إلى المرأة. 

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: (من تأمل أسرار الشريعة، و تدبر حكمها رأى ذلك ظاهراً على صفحات أوامرها و نواهيها، بادياً لمن نظره نافذ، فإذا حرم عليه شيئاً عوضهم عنه بما هو خير لهم و أنفع، و أباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ؛ ليسهل عليهم تركه … ثم قال -رحمه الله- وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية، و أباح لهم منه نظـر الخاطب … و بالجملة، فما حرم عليهم خبيثاً، و لا ضاراً إلا أباح لهم طيباً بإزائه أنفع منه، و لا أمرهم بأمر إلا و أعانهم عليه، فوسعته رحمته، و وسعهم تكليفه). 

وعلى هذا فالنظر إلى المخطوبة قبل الزواج أحد الأمور المهمة التي تعطي المقدِم على الزواج تصوراً يستطيع من خلاله أن يقرر أحد أمرين مهمين:

أولاً: العدول عن الزواج قبل عقده إذا رأى المصلحة في ذلك. فإنه لو أقدم على الزواج من غير نظر، ولم يرغب في المرأة بعد زواجه بها، فربما يحصل الطلاق الذي له عواقب وخيمة، وخاصة على المرأة التي قد تصاب بخسارة كبيرة في حياتها، فلا تتزوج بعد ذلك، أو ربما تقبل الزواج مجدداً من شخص آخر لم تكن لترغب بمثله، يدفعها إليه أنها مطلقة.

ثانياً: الإقدام على إنشاء عقد الزواج بالرغبة المبنية على المعرفة، و الوضوح للطرف الآخر في هذا العقد المهم الذي يعد النظر فيه سبباً لدوام الألفة و المحبة، ومن ثم صلاح الأسرة و المجتمع.

ولقد كان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- يأمر بإبراز الجواري الصغيرات اللاتي لم يبلغن أمام الرجال ؛ ليتعرفوا عليهن، لعل أحداً يرغب في خطبتهن، أو يدل على من يرغب في خطبتهن، فيقول: ( أبرزوا الجارية التي لم تبلغ لعل بني عمها أن يرغبوا فيها ) أخرجه عبد الرزاق في المصنف.

وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحكمة من النظر عند الزواج، فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (إذهب، فانظر إليها ؛ فإنه أجدر ـ وفي رواية أحرى ـ أن يؤدم بينكما ) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.

ومقصود الشارع الحكيم من النظر للمخطوبة أن يرى الخاطب في المرأة التي يرغب الزواج منها من الميزات و الصفات ما يدعوه إلى التزوج بها، وفي ذلك الخير الكثير، أو يرى منها ما يدعوه إلى الانصراف عنها، وعدم الاقتران بها، و في هذا خيرٌ أيضاً.

أما أن يقدم الشخص على الزواج من غير نظر، فهذا فيه مخالفة للهدي النبوي الداعي إلى كل خير و سعادة، وقد دأب كثير من الجهله هداهم الله إلى منع الخاطب من النظر إلى مخطوبته بحجة الغيرة على المحارم، أو بحجة العادات و التقاليد الموروثة عن الأباء و الأجداد المخالفة للهدي النبوي.

ومن العجب أن نرى بعض المتعلمين يمنع من هذه السنة الثابته ويحرم الخاطب بل ويحرم موليته من الآثار الكثيرة المترتبة على ذلك.

كما أن كثيراً من المانعين يتصور أن هذا الخاطب إنما أراد هتك ستر هذه المرأة المتسترة، و النظر إليها وهي كاشفة برضا وليها، ثم يذهب لينظر إلى غيرها، وقد تستمر به الحال عدة سنوات وهو ينظر من هنا وهناك من دون أن يتزوج واحدة من اللاتي نظر إليهن.

وقد لا أكون مبالغاً إن قلت إن هذه الصفة موجودة في بعض شبابنا هداهم الله، لكنها ليست ظاهرة تستوجب العلاج أو الوقوف عندها كثيراً - هذا في تصوري -.

كما أن إغلاق هذا الباب الذي شرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل هذه الأسباب المتوقعة أو المغلوطة التي يدعيها بعض الجهلة فيه جناية على التشريع و الحكم الكثيرة المترتبة على هذا الأمر المستحب المرغب فيه كما في حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- السابق. 

قال الإمام الدهلوي -رحمه الله-: (والسبب في استحباب النظر إلى المخطوبة أن يكون الزوج على روية، وأن يكون أبعد عن الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح، ولم يوافقه فلم يرده، وأسهل لتلافي إن رد، وأن يكون تزوجها على شوقٍ و نشاط إن وافقه، والرجل الحكيم لا يلج مولجاً حتى يتبين خيره و شره قبل ولوجه).

ثم إن الغرض من النظر إلى المخطوبة قد لا يحصل في أول نظرة؛ لأنه ينظر بقصد العشرة الزوجية التي تمتد طيلة أيام العمر، فالخاطب ينظر إلى ما يدعوه إلى ذلك المقصد، وقد يحتاج الخاطب النظر لنفس المرأة التي يريد الزواج منها مرةً ثانية أو ثالثة، إلى غير ذلك من المرات المتكررة. فما هو حكم الشرع المطهر في هذا الأمر ؟!!

وقبل الدخول في مسألة ضابط تكرار النظر للمخطوبة كان لابد من تحرير محل النزاع في المسألة حتى تتصور أخي القارئ المسألة من أصلها.

اعلم أخي القارئ وفقك الله لطاعته أن الفقهاء - رحمهم الله - اتفقوا على جواز النظر إلى المخطوبة، وأنه مستثنى من النظر العام المحرم، وقد نَقَلَ الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم. وكذلك اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على جواز تكرار النظر للمخطوبة.

ثم اختلفوا في تحديد ضابط هذا التكرار على قولين:

القول الأول: أن ضابط تكرار النظر للمخطوبة إنما هو الحاجة، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية و المالكية وأكثر الشافعية والحنابلة.

وقد استدلوا بأدلة، منها كثيرة منها:

الدليل الأول: عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ( يا رسول جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصعَّد إليها النظر، وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست) أخرجه البخاري.

وجه الدلالة من الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعَّد النظر، وصوَّبه إلى المرأة التي جاءت واهبة نفسها له، ومعنى صعَّد النظر - بتشديد العين - أي رفعه، و معنى صوَّبه - بتشديد الواو - أي خفض في النهاية، أي نظر إلى أعلاها، و أسفلها يتأملها.

وهذا فيه دلالة على جواز تكرار النظر، وفيه دلالة على ضبط التكرار بالحاجة حيث طأطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه لما صعَّد النظر و صوَّبه، فاكتفى -صلى الله عليه وسلم- بما رأى منها.

الدليل الثاني: قالوا إن إباحة النظر للمخطوبة مستثنى من تحريم النظر العام، و تقييد الاستثناء بما كان لحاجة، فلو اكتُفِيَ بالنظر إليها مرة واحدة حرم الزائد؛ لأنه أبيح للحاجة، فتقدر الحاجة بقدرها.

الدليل الثالث: قالوا في الغالب لا يحصل الغرض من النظر للمخطوبة من أول نظرة، ولئلا يندم بعد النكاح، فله تكرار النظر إن احتاج إليه ليتبين هيئتها.

القول الثاني: وذهب إليه الإمام الزركشي من الشافعية، وهو أن ضابط تكرار النظر للمخطوبة إنما يقدر بثلاث مرات ؛ لحصول المعرفة بها غالباً. 

وقد أستدل -رحمه الله- على ذلك بحديث عائشة-رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أُرِيتُكِ في المنام يجيء بك الملك في سَرَقَةٍ من حرير، فقال :هذه امرأتك، فكشف عن وجهِكِ الثوبَ، فإذا أنتِ هي فقلت: إن يكن من عند الله يمضه). و في رواية: ( أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال)أخرجه مسلم في صحيحه.

وجه الدلالة من الحديث: أن عائشة -رضي الله عنها-عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات يجيء بها الملك، وهذا يدل على تكرار النظر، و أنه يضبط بثلاث مرات، لحصول المعرفة بالثلاث غالباً.
وقد أجاب جمهور الفقهاء أصحاب القول الأول عن هذا الاستدلال بعدة أمور هي:

أولاً: أن الحديث الذي ذكرتم للاستدلال به على ضبط التكرار بالثلاث، له روايات بغير الثلاث، كما في رواية صحيح البخاري حيث أطلق، ولم يحدد فيها ضابط تكـرار النظر.
ثانياً: ما جاء في رواية الترمذي ( مرتين ) مما يدل على عدم التقيد بالثلاث.

ثالثاً: قولهم إن الثلاث تحصل بها المعرفة غالباً، وتندفع بها الحاجة، غير منضبط؛ لأن النظر تحكمه أحوال مختلفة، فقد ينظر مرة واحدة ويكتفي، وعند ذلك يحرم ما زاد على النظرة الواحدة، ولأنه نظر أبيح للحاجة والضرورة فيقدر بها، و قد ينظر ثلاثاً فلا يكتفي بها، لهذا فالأغلبية التي ذكرتم غير صحيحة.

ثم أخي القارئ الكريم بعد عرض الأقوال والأدلة يتبين لك أن قول جمهور الفقهاء هو الراجح، وهو جواز تكرار النظر إلى المخطوبة، وضبط ذلك التكرار بالحاجة والضرورة لا بثلاث مرات، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من المعارضة، ولورود المناقشة على أدلة القول الآخر.

كما لا يخفى عليك أخي الكريم أن لكل مسألة خلافية في الغالب ثمرة للخلاف، وثمرة الخلاف في هذه المسألة تظهر واضحة و جلية عند مجرد الاطلاع على القولين، فعند جمهور الفقهاء - رحمهم الله - للخاطب تكرار النظر للمخطوبة مطلقاً إذا احتاج إليه ودعت الضرورة لذلك، وتحرم الزيادة على مقدار الحاجة؛ لأن النظر محرم وأبيح للحاجة، فيختص بما تدعو إليه الحاجة والضرورة، فلو نظر مرةً واحدةً، وتبين هيئتها، و تأمل المحاسن، واكتفى بهذه النظرة، لحرم عليه الزائد فلا يكرر النظر. 

وعند أصحاب القول الثاني للخاطب تكرار النظر للمخطوبة ثلاث مرات سواءً اكتفى بالنظرة الأولى، أم لم يكتف، فإذا كرر النظر ثلاث مرات، فإنه يحرم الزيادة بعد ذلك.

ثم إني أبعث بهذه الدعوة لكل شاب مسلم يرغب في الزواج أن يسلك المسلك الشرعي الذي رغب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الدعوة للنظر للمخطوبة قبل الزواج، لما يترتب على ذلك من مصالح تدوم طيلة الحياة الزوجية.

وكذا الدعوة موصولة للأولياء أن لا يمنعوا من هذه السنة المباركة التي ما رغب فيها الشارع إلا لأجل الخير والسعادة لكلى الزوجين، وكما أن للرجل الخاطب الحق في رؤية مخطوبته، فإن للمرأة المخطوبة أيضاً الحق في رؤية خاطبها، حتى تكون على بينة من الرجل المقدم على الزواج بها، فرأي المرأة كما تعلم أخي القارئ الكريم معتبر في الشرع المطهر، فلا يغفل في هذا الجانب المهم. 

أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.