الإعتداء على لا إله إلا الله

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

إن مما ابتلي به الدين الإسلامي قديماً وحديثاً، خروج طائفة من أبنائه ورجاله على تعاليمه وآدابه، حتى أضحوا سيفاً مسلطاً على الدين وقيمه، ولسان حالهم يقول لأعداء الأمة قد كفيتم المئونة، ينقضون عرى الإيمان عروةً عروه، ينشرون الفساد والكفر والعصيان جِهاراً نهاراً، لا يخافون في الشيطان لومة لائم، انتقلوا من التلميح إلا التصريح، ومن النفاق إلى الكفر الصريح، لا أقول ذلك مبالغةً ولا تجنياً على أحد؛ لكنه واقع مرير نعيشه هذه الأيام، مع صحافتنا المغيبة المسلوبة، التي أصبحت أداة في يد من غرر به من أبنائنا، ومن مسخ عقله، وانتكست فطرته وأصبح عبداً للدرهم والدينار، وقد قيل قديماً من أمن العقاب أساء الأدب.

إن المسألة أخي القارئ الكريم أصبحت خطيرة عندما يُمسُّ الدين من أصله وأُسِّهِ وأساسه، عندما تنتقد كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" عندما توصف بأنها مشحونة ملغومة مشوَّهة، عندما تنعت هذه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله" التي قامت عليها السماوات والأرض بأنها انحراف ضارب بأطنابه في الأذهان، عندما يوصف أهل "لا إله إلا الله" بأنهم سدنة القديم، وحراس السائد، وجنود المألوف، عندما يوصف أهل "لا إله إلا الله" بأنهم المتسربلين بالتراث البشري.

هذا الكلام الخبيث لم ينشر في صحيفة أجنبية نصرانية تؤمن بعقيدة التثليث، ولا في جريدة وثنية لا تؤمن بوجود الإله، وإنما نشر يوم الاثنين الماضي الموافق29/12/1428هـ في صحيفة تحمل اسم عاصمة بلاد التوحيد، في صحيفة نشأت وترعرعت في بلد شعاره الخفاق "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وقد بين هذا المقال جهل ذلك المفتون -عامله الله بما يستحق- جهله الضارب بأطنابه بمعنى وحقيقة "لا إله إلا الله"، لا أود أن أذكر اسم الكاتب تكريماً وتشريفاً لمقام هذه المجلة المباركة.

أخي القارئ الكريم: قد بين هذا المقال بما يحتويه على أن البعض من كتابنا ومثقفينا يحتاج إلى إعادة دراسة التوحيد، وأن البعض منهم يجهل معنى "لا إله إلا الله"، يقولها بلسانه دون اعتقاد لما تحويه من معانيٍ عظيمة، وما تشتمل عليه من أحكام كثيرة، فلا إله إلا الله شعار الموحدين، "لا إله إلا الله" أول واجب على المكلفين، "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة، "لا إله إلا الله" وصية الخليل إبراهيم، "لا إله إلا الله"دعوة الأنبياء والمرسلين، "لا إله إلا الله" هي عقيدتنا، "لا إله إلا الله" عليها ولاؤنا وبراؤنا، "لا إله إلا الله" هي الابتلاء وعليها وقع الامتحان، "لا إله إلا الله" لها معنى معلوم بينه ربنا عز وجل ولم يكله إلى اجتهاد الناس {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} بهذا المعنى نطق الرسل عليهم الصلاة والسلام {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} وقال عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.

"لا إله إلا الله" لها من الفضائل العظيمةِ والمزايا الكبيرة والثّمار النافعة والأجورِ الكريمةِ ما لا يمكن لأحدٍ استقصاؤه ولا لمخلوقٍ عدُّه، "لا إله إلا الله" لها مِنَ الأجر العظيم والثّواب الكبير ما لا يخطُر ببالٍ ولا يدور في خيال، قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: "ما أنعَمَ الله على العبادِ نعمةً أعظمَ من أن عرَّفهم لا إله إلا الله".
"لا إله إلا الله" هي الكلِمة الطيّبة والقول الثابت والعروةُ الوثقى وكلِمة التقوى، من تمسَّك بها نجا، ومن فرَّط فيها هلَك، ففي الصحيحين أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ اللهَ حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغِي بذلك وجه الله).

"لا إله إلا الله" كلمةٌ عظيمة لا تنفَع قائلها إلا حين يعرِف مدلولها نفياً وإثباتاً، ويعتقِد ذلك ويعمَل به، "لا إله إلا الله" كلمةٌ تقتضي إثباتَ العبادة وإخلاصَها لله وحدَه واجتنابَ عِبادة ما سواه ونفيَ جميع أنواع العبادةِ عن كلِّ من سوى الله، على حدِّ قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حصر وقصر، فإياك نعبد دون ما سواك، وإياك نستعين دون ما سواك.
"لا إله إلا الله" توحيدٌ خالِص يرتفع به الإنسانُ عن أوحال الذل للمخلوق، فيسمو به إلى مرتبة العبودية الخالصة للخالق:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. 

"لا إله إلا الله" مقتضاها البراءةُ الكاملة من عبادةِ كلِّ ما سواه من الشفعاءِ والأنداد، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، حتى لو كانوا ملائكةً مقربين أو أنبياءَ مرسَلين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
"لا إله إلا الله" تتضمَّن الإقبالَ على اللهِ وحدَه خُضوعاً وتذلُّلاً، إنابَة وتوكُّلاً، دعاءً وطلباً، رغباً ورهباً، رجاءً وخوفاً. فأهل "لا إله إلا الله" لا يصرِفونَ شيئاً مِن العِبادة والتديُّن لغير الله، فهم لا يسأَلون إلاّ الله، ولا يدعُون إلا إيّاه، ولا يتوكَّلون إلا عليه، ولا يرجُون غيرَه، ولا يذبحونَ ولا ينذُرون إلاّ له، ولا يَرجون كشفَ ضرٍّ ولا جَلبَ نَفعٍ إلاّ منه وحدَه،{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

"لا إله إلا الله" من شروطها العلم بمعناها، يعلَم علماً جَازماً أنه لا معبودَ حقٌّ إلا إلهٌ واحد هو الله جلّ وعلا لا شريك له. فربُّنا جلّ وعلا يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}، ونبيُّنا محمّد -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما رواه مسلم: (مَن ماتَ وهو يعلَم أن لا إلهَ إلا الله دخل الجنة).
"لا إله إلا الله" من شروطِها أن يكونَ قائلُها موقِناً بها يقِيناً جازماً لا شكَّ فيه ولا ريب، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، وسيِّد الخلقِ صلوات الله وسلامُه عليه يقول: (أشهد أن لا إلهَ إلا الله وإني رسولُ الله، لا يلقَى الله بهما عبدٌ غيرَ شاكٍّ فيهما إلا دخَلَ الجنّةَ). 

"لا إله إلا الله" مِن شروطها الإخلاصُ المنافي للشّرك والرّياءِ؛ بتصفيَةِ الأعمال والأقوال والأفعالِ وتَنقيَتها من جميعِ الشوائبِ الظاهرة والباطنَةِ، في صحيح البخاري أن سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- قال: (أسعَد الناسِ بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).
"لا إله إلا الله" من شروطِها الصدقُ فيها باللسان والقلبِ والعمل، ففي الصحيحَين عن إمام الموحِّدين صلوات الله وسلامُه عليه أنه قال: (ما مِن أحدٍ يشهد أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله صادقاً من قلبِه إلاّ حرّمه الله على النار).

"لا إله إلا الله" من شروطها المحبّة الكاملة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمحبّةُ لدينه وشرعِه، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}. "لا إله إلا الله" مِن شروطها القَبولُ الكامِل لهذه الكلمة، قبولاً تامّاً بالقلب واللسان، مع الانقياد والقيام بشرعِ الله والإذعان لحكمه والتسليمِ الكامل لذلك، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه أنه لا يؤمن المرء حتى ينقاد لحكم الله وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى; يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً}.

أيها القارئ الكريم، تمرُّ بدين الإسلام أزَماتٌ حادّة وفِتَنٌ مدلهِمّة وبلايا كبرَى ونكباتٌ شتى قديماً وحديثاً، وما يحلُّ بنا من نكَبات، وما نراه من تسلط بعض المسلمين على الثوابت والمسلمات تجريحاً وتشويهاً وكذباً وافتراءً، ما هو إلا ابتلاء ومنه عقوبات، فربُّنا جلّ وعلا يقول: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، ويقول جلّ وعلا {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.
فأهل "لا إلهَ إلا الله" لا تزيدُهم الابتلاءَاتُ والفِتَن، لا تزيدهم هذه المقالات السيئة إلاّ إيماناً صادقاً باللهِ وتَصديقاً محقَّقاً برسول الله وثَباتاً على الحقّ عقيدةً وسلوكاً ونِظامَ حياة، فربُّنا جلّ وعلا يقول: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، ويقول جلّ وعلا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}.

أهل "لا إلهَ إلا الله" أهلُ إنابة وتوبة، لا تمر بهم الأحداث سدى بل يراجعون أنفسهم وينظرون في أعمالهم، ويتوبون إلى ربهم، ويكثرون من الاستغفار وطلب الرحمة من الجبار.
أهل "لا إلهَ إلا الله" ينقادون لشرع الله تعالى لا تحركهم العواطف ولا تموج بهم الشعارات الزائفة الماكرة، قال الله تعالى مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم- {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

فالتزِم أخي القارئ بتحقيق "لا إله إلا الله"، وعظِّم فروضَها، والتزم بشروطها؛ تسلَم وتفوز وتغنَم دنياً وأُخرى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...