خطبة في يوم الجمعة الموافق ليوم عرفة

في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً}، قال عمر: (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه أنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة).

عباد الله: إذا تأملنا ما تضمنته هذه الآية العظيمة واليوم الذي نزلت فيه أدركنا عظمة مضمونها وعظمة اليوم الذي نزلت فيه، وعظمة الأيام التي تليه، إنها تتضمن امتنان الله على عباده المؤمنين بإكمال دينهم لهم، فلم يبق فيه نقص في تشريعاته وأحكامه، ولم يتطرق إليه خلل في نظامه، ولم يدخل التحريف والتبديل والزيادة والنقص في مصادره التي يُرجَعُ إليها لمعرفة تفاصيل أحكامه. وهي: الكتاب والسنة، فقد تكفل الله بحفظهما فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتابُ الله وسنتي).

فدين الإسلام دين متكامل، ونظامٌ شامل لمصالح العباد، دين الإسلام صالح لكل زمان ومكان ما بقيت الدنيا ومن عليها، دين الإسلام محفوظ من العبث والتغيير والتبديل. 
دين الإسلام كامل في أصوله وفروعه وفي مبانيه ومعانيه، في عباداته ومعاملاته، دين الإسلام شامل لنظام الأمة والأفراد، دين الإسلام كفيل بجلب المصالح، ودفع المفاسد، وحماية الحقوق، وردع المفسدين، وفصل الخصومات، وقطع المنازعات، وتوفير أساليب السياسة الداخلية والخارجية، دين الإسلام لا يعتريه نقص ولا يتطرق إليه خلل {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. 

دين الإسلام يسع العالم كلهم العيش تحت ظله، ويشملهم بعدله، دين الإسلام شهد الله له بالكمال، وبأنه أعظم نعمي أنعمها على المسلمين، وأنه لا يرضى بدين سواه. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، فمن زعم أن الإسلام لا يصلح لهذا الزمان أو شك في صلاحيته، أو قال: إنه مختص بعلاقة العبد بربه، وأما شؤون الناس فيما بينهم وشؤون السياسة والاقتصاد والحكم فإن الإسلام لا يتناولها، فهو على خطر عظيم.
عباد الله: إذا تأملنا اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}وهو يوم عرفة، وفي يوم الجمعة أدركنا شرف الزمان الذي نزلت فيه فهو خير يوم طلعت فيه الشمس.
إن يوم عرفة عباد الله يوم فخر للمسلمين إذ لا يمكن للمسلمين في أي مكان أن يحتشدوا بهذا العدد في وقت واحد إلا في صعيد عرفات. 

إن في اجتماعهم هناك آية عظيمة على قدرة الله سبحانه وتعالى، إذ يسمع دعاء كل هؤلاء في وقت واحد على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم، ويعطي كل واحد سؤله، دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات أو تخفى عليه الأصوات والكلمات فسبحان السميع البصير العلي الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يوم عرفة يوم العتق من النار. 

يوم عرفة يوم خوف وخشوع وخشية من الله. 
يوم عرفة يوم يذِلُّ فيه المؤمنون لربهم مخبتين منيبين تائبين. 
يوم عرفة يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحون بخير الدعاء وبخير ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبيون من قبله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ليعلنوا بذلك صدق ولائهم لله وتوحيدهم إياه، فلا يدعون غيره ولا يرجون سواه.
يوم عرفة هو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}. 

يوم عرفة هو المشهود الذي أقسم الله به في قوله: {وَشَـاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}، كما ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً: (الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وقد اجتمع بحمد الله اليوم الشاهد والمشهود يوم الجمعة و يوم عرفة، وفي ذلك فضل عظيم، إذ اجتمع اليومان اللذان هما أفضل الأيام، فيوم الجمعة هو اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأهل الموقف بعرفة كلهم واقفون للدعاء والتضرع، ومن فضائل هذا اليوم أن فيه اجتماع المسلمين من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه.

يوم عرفة يوم المباهاة بأهله من الله للملائكة الكرام، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟) فيغفر الله فيه لكل من وقف ومن لم يقف فيه ممن قبلت توبتهم واستغفارهم.
يوم عرفة يومٌ يغفر الله لمن صام من غير الحجيج السنة التي قبلها والسنة التي بعدها، فلا إله إلا الله ما أحلم الله على عباده وما أكرمه وهو الجواد الكريم.
يوم عرفة يومٌ تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام) أخرجه مالك في الموطأ.

عباد الله، اعتاد المسلمون الذين لم يكتب لهم الحج، أن يصوموا يوم عرفة، وأن يضحوا يوم العيد. ولما كان هناك العديد من الأحكام التي تتعلق بالأضحية، والتي تخفى على البعض من الناس، ولأن الأضحية سوف يبدأ وقتها غداً. كان لابد من تبيين بعض أحكامها.
فالأضحية هي ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام عيد الأضحى، بسبب العيد تقرباً إلى الله عز وجل، وهي من شعائر الإسلام المشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع المسلمين. قال الله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ}، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، وقال سبحانه: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَـامِ فَإِلا هُكُمْ إِلَـهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ}. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه أحمد والترمذي. 

أيها المسلمون، ذهب جمهور العلماء إلى أن الأضحية سنة مؤكدة. وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن ذلك عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه، ولأن الذبح من شعائر الله تعالى. فلو عدل الناس عنها إلى الصدقة لتعطلت هذه الشعيرة. ويشترط في الأضحية أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وأن تبلغ السن المحدود شرعاً. 
وأن تكون الأضحية خالية من العيوب كأن تكون عوراء أو عرجاء أو مريضة مرضاً بيناً أو هزيلة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سئل ماذا يُتقى من الضحايا فأشار بيده وقال: أربعاً، العرجاء البين ظِلَعُها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى. رواه مالك في الموطأ.

ووقت الأضحية هو من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
وتجزئ الأضحية الواحدة من الغنم عن الرجل وأهل بيته ومن شاء من المسلمين. إذا نوى بها ذلك. لما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش أقرن ثم أمر بالسكين ثم قال: (بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) ثم ضحى به -صلى الله عليه وسلم-.
ثم يشرع للمضحي أيها الأخوة، أن يأكل من أضحيته ويهدي ويتصدق، لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}. 
ويحرم أن يبيع شيئاً من الأضحية، لا لحماً ولا غيره من الجلد، يحرم عليه بيعه. ولا يجوز أن يعطى الجزار شيئاً منها في مقابلة الأجر، أو بعضها، لأن ذلك بمعنى البيع، لكن لو أعطى الجزار شيئاً كهدية أو صدقة بعد إعطائه أجره كاملاً فله ذلك.

عباد الله: ومن السنة في هذه الأيام التكبير مطلقاً ومقيداً، والمقيد هو الذي يكون أدبار الفرائض، وهي الصلوات الخمس والجمعة، ويبدأ التكبير المقيد لغير الحاج من فجر يوم عرفة، وللحاج من ظهر يوم النحر، ويمتد في حقهما التكبير مطلقاً ومقيداً إلى آخر أيام التشريق.
نسأل الله عز وجل أن يتقبل من المضحين ضحاياهم ومن الصائمين في هذا اليوم صيامهم. ومن الحجاج حجهم. بارك الله لي ولكم.

========================

أيها المسلمون، إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن اغتنامه فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء اغتنامه بارتكاب المعاصي والسيئات حتى لقي الله عز وجل على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يُحاسب، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببًا في هلاكه.
فخذ ـ يا عبد الله ـ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك وزد في حسناتك، فإنك راحل لا محالة، وسائر في الطريق الذي سار فيه الآباء والأجداد والأصحاب والأحباب.

فاحذروا عباد الله، وبادروا بالأعمال الصالحة فتنا قد تحيط بكم، لا ينجي منها إلا الإيمان الصادق والمسارعة في الخيرات، يقول سبحانه: {سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.ثم أعلموا عباد الله أن أصدق الحديث كتاب الله...