الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فقد دلَّ الكتاب والسنة على أن الأهلَّة معتبرة في حساب المواقيت للناس في أعمالهم وشؤون حياتهم، بل وفي عباداتهم الشرعية، فصيام شهر رمضان المبارك لا يثبت إلا برؤية الهلال أو بإكمال العدة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ, وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ, فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ) متفق عليه.
ورؤية الهلال مع اتحاد المطالع أو اختلافها، يقصد به، ظهور القمر ورؤيته في أول الشهر في بلد دون بلد, حيث يراه أهل بلد مثلاً, بينما لا يراه أهل بلد آخر, فتختلف مطالع الهلال.
لذا تعرض الفقهاء – رحمهم الله - لأحكام اختلاف المطالع، نظراً إلى تعلق فرضية أو صحة بعض العبادات بها, فضلاً عن كثير من الأحكام المتعلقة بفقه المعاملات وفقه الأسرة وغير ذلك.
فلو شوهد هلال شهر رمضان المبارك في بلدٍ، فهل يلزم أهل البلاد الأخرى الذين لم يروا الهلال أن يصوموا بهذه الرؤية؟.
وقبل معرفة الجواب على هذا التساؤل ينبغي أن تعرف أخي القارئ الكريم أن الفقهاء رحمهم الله اتفقوا على أن حكم الحاكم في هذه المسألة يرفع الخلاف. واتفقوا أيضاً على أنه إذا تقاربت البلدان فحكمها حكم بلد واحد، أما إذا شوهد هلال شهر رمضان المبارك في بلدٍ، فهل يلزم أهل البلاد الأخرى البعيدة الذين لم يروا الهلال أن يصوموا بهذه الرؤية؟ أختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة وليس هذا موضع بسطها.
ما يهمني هو التقنيات الحديثة في مجال رؤية الهلال وتأثر الحكم الشرعي بتلك التقنيات، وفيما يلي أستعرض لك أخي القارئ الكريم أهم التقنيات في هذا المجال مع تطبيق الحكم الشرعي عليها:
أولاً: يتحدث البعض عن إطلاق قمر صناعي تكون مهمته تصوير الهلال ومن ثم معرفة إهلاله أو عدمه، وكانت بداية هذا المشروع اقتراحاً مقدماً من مفتي مصر السابق الشيخ/ نصر فريد واصل، عام 1418هـ الموافق 1998م لبناء قمر صناعي إسلامي، يرمي إلى التغلب على مشاكل رصد الهلال من فوق سطح الأرض، التي يتسبب فيها تلوث الجو والسحب وغيرها، فيستطيع رصد مطالع الهلال بدقة، فيحقق توحيد المواقف بين أنصار الرؤية الشرعية وأنصار الحساب الفلكي، وبالتالي توحيد مطالع الشهور العربية تمهيداً لتوحيد مواقف العرب والمسلمين، على اعتبار أن توحيد المطالع دليل على وحدة المسلمين، والعكس صحيح.
وتكمن فكرة هذا القمر في استخدام منظار محمول على القمر الذي سيدور على ارتفاع مناسب ما بين (400- 600) كلم من سطح الأرض، وهو ارتفاع تتحقق به عدة مزايا، مثل انعدام التلوث الجوي تماماً، فيصفو الأفق صفاءً كاملاً، وينعدم تشتت الضوء، وبذلك تبدو الأجرام السماوية مضيئة وسط ظلام منتشر، فلا تضعف إضاءة الهلال بالنسبة للأفق، وبذلك يمكن رؤية الهلال مهما كانت درجة لمعانه.
والأهم -كما يشير الاقتراح- أنه من هذا الارتفاع يكون القمر مرئياً بوضوح من دائرة محيطة بالنقطة التي تقع تحته مباشرة، ويزيد قطرها على (2000) كلم، مما يتيح له رؤية كل العالم العربي والإسلامي في دوراته المتتالية.
وكانت تكلفة بناء هذا القمر الأساسية حوالي 15 مليون دولار تشمل: القمر، والأجهزة المحملة عليه، وعملية الإطلاق، والمحطة الأرضية الرئيسية؛ إلا أنها لا تشمل إقامة المحطات الأرضية الفرعية التي ستقيمها كل دولة للتواصل مع القمر.
علماً بأن العمر الافتراضي للقمر ما بين 4 إلى 5 سنوات، ويستدعي استمرارية تحقيق الهدف المنشود إطلاق أقمار أخرى في المستقبل، إلا أن القمر الثاني تقل تكلفته كثيراً عن القمر الأول؛ ذلك أن البنية الأساسية ومحطات التتبع والمحطات الأرضية تقام مرة واحدة.
يقول الدكتور/ سيد دسوقي حسن وهو من علماء الفضاء والطيران في عالمنا الإسلامي، ورئيس قسم هندسة الطيران والفضاء الأسبق بجامعة القاهرة:(هب أن القمر الصناعي التقط صورة للقمر الطبيعي، فحتى نستطيع تحليل هذه الصورة وربطها بالرؤية الشرعية (المرتبطة بالأرض) لا بد من عمل حسابات دقيقة لموقع القمرين، واتجاه القمر الصناعي، ثم تحليل ذلك حسابياً بالنسبة للرؤية الأرضية عند موقع ما على الأرض، وكل تلك الحسابات تقوم على قياسات ليست بريئة من التشويش، وأعتقد أن الحسابات الديناميكية التي نجريها في حاسباتنا الكبيرة الآن أكثر دقة منها بكثير).
ثم إن حكم من في الجو يختلف عن حكم من في الأرض، فلو غربت الشمس على الصائم في الأرض، ثم حلق في الجو فرأى الشمس لم يلزمه الصوم، وفي رأيي القاصر يمكن أن يحال هذا المشروع إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، والنظر في الجدوى الفنية لمثل هذا القمر، وتصدر بذلك رأياً حول الأمر، يلتزم به أهل الاختصاص في الأمة؛ لكي نكون قد استيقنا مما نريد عمله، ولا يترك الأمر لرأي مجموعة صغيرة من العلماء مع ضغوط من الشركات العالمية المستفيدة من إنجاز مثل هذه المشاريع.
وهذا المشروع بهذا الحجم، لم يفعَّل بعد، ثم إننا متعبدون بالرؤية البصرية التي يعلم طريقتها كل المسلمين: عربهم، وعجمهم، متعلمهم وجاهلهم، وهذا المشروع قد يفضي بنا إلى أن نأخذ بكلام غير المسلمين في رؤية الهلال.
ثاتياً: هناك تقنية حديثة أخرى، هي استخدام الموجات الكهرومغناطيسية، وترسل من الأرض إلى سطح القمر، سواءً كانت موجات الراديو، أو موجات الميكروويف، أو الموجات تحت الحمراء، وهي أقواها، ثم يتم استقبال الانعكاس لهذه الموجات.
وهذا الاقتراح يفتقر للمنطق بدرجة كبيرة، فالهلال وقت رصده يكون قريباً من الأفق، ومن المعلوم صعوبة استخدام موجات الكهرومغناطيسية قريباً من سطح الأرض، كذلك لا تفرق هذه الموجات بين الهلال المضيء وأي سطح معتم تقابله أو تنبعث منه.
والهدف هو إرسال هذه الموجات إلى الهلال حال غياب الشمس قبل القمر بعد الاقتران، فإن اصطدمت هذه الموجات بسطح الهلال المضيء، وارتدَّت هذا الموجات إلى الأرض، فقد هلَّ الهلال، وإنما حجبه الغيم أو الغبار، وإن لم ترتدَّ هذه الموجات، فهذه علامة على غياب القمر عن الأفق قبل الشمس بعد الاقتران، فلا إهلال للهلال. هذه التقنية الحديثة، وإن كانت لم تطبق بعد إلا أنها قابلة للبحث والمناقشة، وقد أفادني الدكتور/ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ أستاذ الهندسة الكهربائية المشارك بكلية الهندسة جامعة الملك سعود، بقبول الفكرة من الناحية العلمية البحتة، إلا أنها مفتقرة للتجربة حتى يتسنى الحكم عليها من الناحية العلمية.
وهذه التقنية لم تدخل حيز التطبيق، مع ما فيها من احتمالية اصطدام هذه الموجات بأجسام أخرى، أو انحراف هذه الموجات عن طريقها بفعل عوامل الجو، خاصةً أنها تسير قريبة من الأفق.
ثالثاً: من التقنيات الحديثة في هذا المجال: إنشاء مراصد تكون مهامها الأساسية رصد أهلة الشهور الهجرية، ومن عملها تحديد مواقع القمر، ومقدار ارتفاعه – أي القمر – عن الأفق، وكذا بعده أو قربه من الشمس عند غروبها، ويستطيع المرصد الفلكي تحديد موعد شروق القمر وموعد غروبه، وذلك بالنظر بالعين عن طريق التلسكوب.
ومن المهم جداً لدى المراصد الفلكية تحديد ثلاثة محاور، بموجبها نستطيع أن نعرف وقت إهلال الهلال، وهذه المحاور الثلاثة هي:
1. تحديد لحظة الاقتران بين الشمس والقمر.
2. تحديد لحظة الغروب للشمس.
3. تحديد لحظة الغروب للقمر.
وبموجب هذه المحاور الثلاثة نحدد: هل هناك إهلال أم لا؟
إلا أن هذه التقنية الحديثة تحتاج للخبير الفني حتى يتمكن من تشغيل هذه الأجهزة والعمل عليها، وهذا أمر لا يحسنه الكثير من الناس، والشرع المطهر جاء في أحكامه مراعياً لعامة الناس لا لخاصتهم.
والذي أراه أيها القارئ الكريم، أنه لكل أهل مطلع رؤية تخصه، ولا مانع من استخدام التلسكوب أو المرصد في تحديد مكان الهلال ووقت غروبه، من دون أن تلزم جميع دول العالم الإسلامي بذلك، بل من رأى الهلال يصوم، ومن لم ير الهلال يتم العدة، والكُلُّ متبعٌ للشرع، وقد نص قرار هيئة كبار العلماء على أنَّ إِنشاء المرصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا ما نع منه شرعاً، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.